في تموز 2022، دانت بكين، على لسان المتحدّث باسم الخارجية الصينية وانغ وينبين، أعمال السرقة والنهب (bandit behavior) التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية في شرق سوريا، حيث تحتلّ جزءاً حيوياً من البلاد، وذلك تعليقاً على الاتهامات السورية للأميركيين بسرقة النفط السوري .
مصطلح النهب (bandit behavior) نفسه سبق أن استخدمه الرئيس السوري بشار الأسد في أكثر من مناسبة. فيما لا تنفكّ وسائل الإعلام السورية الرسمية تعلن، كل مدّة، عن قوافل من الشاحنات والصهاريج تخرج من منطقة شرق الفرات في الأراضي السورية نحو العراق، بحماية أميركية، وبمواكبة ممّا يسمّى قوات سوريا الديموقراطية .
لكن، هل تحتاج الولايات المتحدة فعلاً إلى النفط السوري بإنتاجه الحالي الضئيل، بعد تراجعه من نحو 360 ألف برميل يومياً إلى أقل من 90 ألف برميل يومياً على أحسن تقدير، وبأدوات استخراج بدائية؟
الهدف الأساس من عملية النهب الأميركية هذه هو مساعدة الإدارة الذاتية الكردية التي تحظى بحماية أكثر من 13 قاعدة أميركية في منطقة شرق الفرات، على تمويل أنشطتها وضمان حيازتها كتلة نقدية وتغطية الحاجات المحليّة من النفط. أضف إلى ذلك، الحفاظ على منطقة نفوذ أميركي في قلب الداخل الشامي بين بغداد ودمشق، وخنق الحكومة المركزية في دمشق، وحرمان التجمّع البشري السوري الأكبر في المساحة التي تسيطر عليها الحكومة من الموارد الحيوية، وعلى رأسها النفط والغاز والقمح والدواء.
بحسب تقرير صادر عن الهيئة المالية التابعة للإدارة الذاتية مطلع 2020، بلغت عائدات النفط والغاز حوالي 156 مليار ليرة سورية (156 مليون دولار) عام 2019، ما شكّل أكثر من 76% من مجمل عائدات «قسد» البالغة حوالي 198 مليار ليرة. وتدّعي الإدارة أنها تنفق هذه العائدات على دفع رواتب موظفيها المدنيين والعسكريين. وزعم الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي في الإدارة، عبد حامد المهباش، أن عدد موظفي الإدارة يتجاوز الـ 120 ألفاً، إضافة إلى القوات العسكرية المنخرطة في «قسد». غير أن كثيرين يشكّكون في هذه الأرقام، مشيرين إلى أن عدد موظفي الإدارة الذاتية أقل من ذلك بكثير. ويرى مصدر حكومي سوري أن «تضخيم العدد يهدف إلى استجلاب مزيد من المساعدات من الدول الغربية، والإيحاء بأن الإدارة تحسن إدارة المناطق التي تسيطر عليها بدعم من الاحتلال الأميركي بما يعود بالمنفعة على السكّان».
وتشكّك دمشق في نوايا «قسد»، ومن خلفها الأميركيين، في إيجاد نهاية للصراع واستعادة وحدة سوريا. وبعد كل محاولات الحوار السورية والروسية، والضغوط التركية، تزداد القناعة بوجود رغبة أميركية في مواصلة استخدام ورقة النزعة التقسيمية للكرد للحفاظ على عناصر التوتر في سوريا لسنوات عديدة مقبلة، وإبقاء البلاد رهينةً للأطماع الدولية والإقليمية، ولفوضى ما بعد الحرب، على ما يؤكّد مصدر حكومي لـ THE CRADLE.
وبحسب المعلومات، فإن حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من جبال قنديل مقراً لقياداته الأساسية، هو المسؤول عن ملفّ النفط السوري الذي يؤمّن له عائدات مالية لتمويل نشاطاته العسكرية والإدارية.
كذلك أكّد جوناثان هوفمان، مساعد وزير الدفاع الأميركي، أن عائدات النفط السوري لا تعود للأميركيين، بل لقوات سوريا الديمقراطية («قسد»).
إمساك الأميركيين بورقة النفط وتغطيتهم عمليات الاستخراج البدائي التي تقوم بها «قسد»، بعد الخسائر الفادحة التي لحقت بالقطاع (قدّرها وزير النفط السوري بسام طعمة في شباط 2022 بأكثر من 100 مليار دولار)، يندرجان ضمن سياسة الحصار على دمشق التي تنتهجها واشنطن منذ سنوات طويلة. وبعد عام 2011، تعززّت هذه السياسة العدائية بقرار «الخنق»، مع صدور «قانون قيصر» والاستهداف الإسرائيلي، بغطاء أميركي، لميناءي طرطوس واللاذقية لعرقلة عمليات نقل النفط، إضافة إلى الاعتداءات المتكررة على مصفاة حمص، وهي شبه الوحيدة التي تكرر النفط الخام في سوريا.
أربع وجهات للنفط
لا توجد تقارير رسمية دقيقة عن إنتاج حقول النفط الخاضعة لسيطرة «قسد» شرق سوريا، والتي تعرّضت منشآتها لأضرار جسيمة أثناء العمليات العسكرية للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش». ولا يمكن الحصول على معلومات دقيقة حول حجم العائدات التي يوفّرها بيع النفط المسروق لـ«قسد»، إذ أن الموظفين الحكوميين يُمنعون من الوصول إلى هذه المنشآت، فيما لا تبدي الشركات التي وقعت عقوداً مع الجانب السوري رغبة في استئناف العمل في ظل حالة الفوضى القائمة.
آخر رقم رسمي جاء على لسان المدير العام لمديرية حقول نفط الجبسة الحكومية في محافظة الحسكة المهندس علي حسن اليوسف الذي أبلغ وكالة «سبوتنيك» الروسية، في تشرين الثاني 2022، أن الأميركيين يسطون يومياً على نحو 12460 برميلاً من حقول الجبسة وحدها، و40 ألفاً أخرى من حقول رميلان في الحسكة، أكبر حقول النفط السورية.
وتتقاطع معلومات مصادر محليّة في الحسكة ودير الزور، مع تقارير أمنية وإعلامية سورية عن أربع وجهات رئيسية يُنقل إليها النفط المسروق.
[caption id="attachment_443" align="alignnone" width="2560"] TheCradle.co/arabic[/caption]
الأولى، السوق المحلية في المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية، حيث تذهب النسبة الأكبر من الانتاج بعد تكريره في مصافٍ بدائية في ريف دير الزور. ويبدأ سعر البنزين في هذه المناطق من 210 ليرات سورية لليتر الواحد من البنزين المسمّى بـ«المدعوم»، وهو أقل النوعيات جودة، ويتدرج بحسب الجودة إلى 410 ليرات و810 ليرات و1250 ليرة لليتر.
الثانية، المناطق التي تحتلها القوات التركية بمعاونة ما يسمى «الجيش الوطني السوري»، وإدلب الخاضعة لسيطرة «جبهة النصرة» عبر «هيئة تحرير الشام». معظم النفط الذي يُنقل إلى هذه المناطق هو من النفط الخام، عبر معابر عدة أشهرها وأكبرها معبر الحمران، جنوب مدينة جرابلس شرق حلب. وكان هذا المعبر يقع تحت سيطرة «الفيلق الثالث» الذي كان يفرض عمولات مقابل السماح بتمرير النفط إلى إدلب، قبل أن تسيطر «الهيئة» على المعبر مؤخراً عبر ذراعها «حركة أحرار الشام». بالتالي بات الطريق مفتوحاً أمام إدخال النفط إلى حرّاقات بدائية في مناطق عدة في ريفي حلب وإدلب، ومن ثم إلى إدلب. وتتولّى «شركة السلام» المموّلة من «هيئة تحرير الشام»، بناء على اتفاق بين «قسد» و«الهيئة»، عمليات البيع والشراء مع الإدارة الذاتية، بعد أن كان هذا الأمر منوطاً بشركة «وتد» (جريدة «الشرق الأوسط»، 2 شباط 2022). ويباع ليتر البنزين في هذه المناطق بما يقارب الـ 5 آلاف ليرة.
الثالثة، كردستان العراق عبر معبر سيملكة قرب مدينة المالكية ومعبر المحمودية جنوباً. وتتولّى «شركة الناجي» إتمام المعاملات التجارية. وليس واضحاً ما إذا كانت كردستان العراق الغنية بالنفط بحاجة فعلاً إلى النفط السوري. لذلك، ترجح مصادر محلية بأن النفط يُكرّر في كردستان، ويعاد إلى مناطق الإدارة لبيعه بأسعار مرتفعة.
الرابعة، المناطق الخاضعة لسلطة الحكومة السورية، وهي تنال الحصة الأصغر من مجمل هذه الثروة. إذ تتولى شركة «القاطرجي» نقل ما لا يزيد على 140 صهريجاً يومياً نحو مصفاة حمص. وتعدّ أسعار المشتقات النفطية في هذه المناطق الأعلى، إذ يزيد سعر ليتر البنزين، مثلاً، على خمسة آلاف ليرة مع ندرة في الكميات.
العملية العسكرية التركية
في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أعلن وزير النفط السوري أن الضربات الجوية التركية ضد مواقع للمقاتلين الأكراد في مناطق سيطرة «قسد»، قبل نحو عشرة أيام، ألحقت «أضرارًا كبيرة» بمنشآت الطاقة في البلاد، بعد أن أصابت محطة غاز وعدة آبار نفطية ومحطات كهرباء. وأشار إلى أن القصف طال معمل غاز ما أدى إلى توقفه عن الانتاج، بعدما «كان ينتج 150 طناً من الغاز المنزلي، وحوالي مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي» تستخدمها محطة توليد تمد محافظة الحسكة (شمال شرق) بالتيار الكهربائي، لافتاً إلى تضرر محطات نفط أيضاً و«احتراق العديد من الآبار»، ما أدى إلى «تلوث بيئي كبير جراء انفجارات الخزانات».
وقد استغلت أنقرة انفجار اسطنبول في 13 تشرين الثاني - نوفمبر 2022 لبدء حملة من الاعتداءات على الأراضي السورية بحجة استهداف البنى التحتية لـ«قسد». وتحدّثت وسائل الإعلام عن استهداف المدفعية والطائرات التركية أكثر من 40 موقعاً لانتاج النفط في شرق الفرات، بذريعة تجفيف مصادر «قسد» المالية.
لكن الاعتداءات التركية بذريعة محاربة «قسد» لا تبدو حتى الآن أكثر من عملية تأديبية لـ«قسد» وإضعاف مصادر تمويلها، (ولا مشكلة بالتضحية ببعض الموارد النفطية طالما أنها خسائر للشعب السوري ويمكن أن تعوّضها تركيا على جماعاتها). إذ ليس سهلاً القضاء على «قسد»، طالما أن الولايات المتحدة لم تتخذ بعد قراراً برفع الغطاء عنها والانسحاب عسكرياً من منطقة شرق الفرات. وحتى لو تطورت العمليّة التركية إلى قضم أراض جديدة من سوريا كما هو حاصل اليوم في إدلب وجرابلس والشريط الحدودي الشمالي، فإن هذه السياسة لن تنتج إلّا مزيداً من تقسيم سوريا بين الجماعات التابعة لتركيا من بقايا المعارضة المسلحة و«جبهة النصرة» والجماعات التابعة للأميركيين كالإدارة الذاتية الكردية.
مترجَم من:
TheCradle.co
تعليقات