بتاريخ 23 حزيران/يونيو الماضي، قام وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بزيارة إلى واشنطن استمرت لمدة ثلاثة أيام، التقى خلالها بعدد من المسؤولين الأميركيين، من بينهم وزير الدفاع لويد أوستن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن. وفقًا لبيانات صادرة عن وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين، ركّزت مناقشات غالانت في واشنطن على ثلاثة محاور رئيسية: التصعيد الحالي مع حزب الله على الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، خطة ما بعد الصراع في غزة، ومحاولة تخفيف التوتر بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. كما أفادت المعلومات بأن غالانت قدّم للمسؤولين الأميركيين خطة لما بعد الصراع في قطاع غزة.
برنامج هاملت الاستراتيجي
بطبيعة الحال، إن أي خطة لمرحلة ما بعد الحرب يجب أن تأخذ في الاعتبار الظروف الفعلية وديناميكيات القوة التي نشأت أثناء الصراع. فالقدرة على تنفيذ خطة "اليوم التالي" تعتمد إلى حد كبير على من يحقق مكاسب استراتيجية أكثر. وإن تجاهل هذه الحقائق يؤدّي إلى خطط غير عملية وغير قابلة للتنفيذ. وعلى هذا النحو، تتطلّب استراتيجية ما بعد الصراع الناجحة الاعتراف بالحقائق على الأرض والتكيّف معها.
مثال واضح على هذا الكلام هو استراتيجية الولايات المتحدة خلال حرب فيتنام، ولا سيما تنفيذ برنامج هاملت الاستراتيجي في أوائل الستينيات. كما هو معلوم، كانت حرب فيتنام عبارة عن صراع طويل الأمد بين فيتنام الشمالية، بدعم من حلفائها الشيوعيين، وفيتنام الجنوبية، بدعم من الولايات المتحدة ودول أخرى مناهضة للشيوعية. كان برنامج هاملت الاستراتيجي، الذي بدأ عام 1962، جزء من المشاريع الأميركية التي هدفت إلى إنشاء مجتمعات جديدة من "القرى المحصّنة" ونقل القرويين إليها بهدف الحد من تأثير جبهة التحرير الوطني، المدعومة من فيتنام الشمالية، عليهم. وبحسب البرنامج كان يجب أن يتم توفير الحماية والدعم الاقتصادي والمساعدة للفلاحين الريفيين من قبل الحكومة، وبالتالي تعزيز العلاقات مع حكومة فيتنام الجنوبية والتي كان من المأمول أن تؤدي إلى زيادة ولاء الفلاحين تجاهها.
إلا أن البرنامج لم يأخذ في الاعتبار الديناميكيات الاجتماعية والثقافية المعقّدة للحياة الريفية الفيتنامية. وتم نقل العديد من القرويين قسرًا، مما أدّى إلى تعطيل أسلوب حياتهم التقليدي وممارساتهم الزراعية. وقد أثار هذا الترحيل القسري الاستياء بين السكان، الذين شعروا بالنقمة على حكومة فيتنام الجنوبية وداعميها الأميركيين.
وتبيّن أن المخطّطين قلّلوا من تقدير تأثير جبهة التحرير الوطني العميق ودعمهم داخل المجتمعات الريفية. وبدلًا من إضعاف جبهة التحرير الوطني، دفع البرنامج في كثير من الأحيان المزيد من القرويين لدعمهم، حيث استخدمت الجبهة فشل البرنامج كدعاية لإثبات عدم كفاءة حكومة فيتنام الجنوبية وحلفائها.
وفي سبيل إظهار أن "القرى المحصّنة" غير محمية كما يجب وتفتقر إلى الأمن الكافي كانت جبهة التحرير الوطني تتسلّل إلى هذه القرى، مما قوّض الغرض المقصود منها وعرّض القرويين لمزيد من الخطر. وقد أدى هذا الفشل في توفير الأمن إلى تعزيز الاعتقاد بأن الحكومة غير قادرة على حماية شعبها.
وبالتالي، يمكن القول أن الحكومة في فيتنام الجنوبية، ومن خلفها الولايات المتحدة، فشلت في تحقيق هدف تغيير طبيعة المجتمع الفيتنامي الجنوبي ليصبح بعيدًا عن جبهة التحرير الوطني. وبالنظر إلى الأحداث، يمكن القول أن فشل برنامج هاملت الاستراتيجي سببه الرئيسي هو عدم الالتفات إلى الخلفية الثقافية والاجتماعية للبيئة الفيتنامية. وهو ما أدّى إلى التخلي عن البرنامج بحلول منتصف الستينيات.
الأسباب الرئيسية لفشل برنامج هاملت الاستراتيجي
1-الاضطراب الثقافي والاجتماعي: قام البرنامج بنقل القرويين قسرًا، مما أدى إلى تعطيل أنماط حياتهم التقليدية وممارساتهم الزراعية. وقد تسبب هذا باستياء كبير حيث تم اقتلاع الأسر من أراضي أجدادها، والتي كانت جزءًا لا يتجزأ من هويتهم وأسلوب حياتهم.
2-التقليل من تأثير جبهة التحرير الوطني: لقد قلّل المخطّطون من تقدير تأثير جبهة التحرير الوطني العميق داخل المجتمعات الريفية.
3-سوء الأمن وضعف الموارد: كانت العديد من القرى الصغيرة مبنية بشكل سيء وتفتقر إلى التدابير الأمنية الكافية.
4- سوء التنفيذ والفساد: عانى البرنامج من سوء التنفيذ وانتشار الفساد. غالبًا ما تم استنزاف الأموال والموارد المخصصة لبناء ودعم القرى الصغيرة من قبل المسؤولين الفاسدين.
5-إهمال المجتمعات المحلية: تم تنفيذ البرنامج على عجل ودون التشاور الكافي مع المجتمعات المحلية. أدى هذا إلى تجاهل النسيج السياسي والاجتماعي المعقد للمجتمع الريفي الفيتنامي.
خطة "إسرائيل" لليوم التالي
يبدو أن كيان العدو مصرّ على عدم التعلّم من التجارب السابقة. رغم أن الولايات المتحدة كانت حريصة منذ اليوم الأول للحرب على نقل تجاربها السابقة لدولة الاحتلال، كي تتفادى الوقوع في الأخطاء نفسها. إلا أنه بالنظر إلى ما تطرحه إسرائيل من خطط لما بعد نهاية الصراع يبدو واضحًا أن إسرائيل مصرّة على عدم التعلّم إلا من أخطائها.
فبحسب مقال في موقع واشنطن بوست "كان الموضوع الأكثر أهمية الذي ناقشه غالانت خلال زيارته هو الخطة التفصيلية للمرحلة الانتقالية في غزة بعد الحرب". مضيفًا أن الخطة ستمضي قدمًا حتى لو استمرت حماس في رفض اقتراح وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن" وبحسب المقال تتضمّن خطة غالانت:
1- إن عملية الانتقال في غزة ستشرف عليها لجنة توجيهية بقيادة الولايات المتحدة والشركاء العرب المعتدلين.
2- ستشرف قوة دولية - ربما تضم قوات من مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة والمغرب - على الأمن، مع توفير القوات الأميركية القيادة والسيطرة والخدمات اللوجستية من خارج غزة، ربما في مصر.
3- ستتولى قوة فلسطينية تدريجيًا مسؤولية الأمن المحلي.
4-من المرجح أن يتم تدريب هذه القوة الأمنية الفلسطينية في إطار برنامج المساعدة الأمنية الحالي للسلطة الفلسطينية، برئاسة جنرال مايكل فينزل، الذي يتمركز في القدس كمنسق أمني لإسرائيل والسلطة.
5-سيتم تنفيذ الخطة الانتقالية في غزة على مراحل، بدءًا من شمال غزة والتوسع جنوبًا مع تحسن الظروف.
6-توسيع "الفقاعات" الأمنية التي ستشمل في نهاية المطاف 24 منطقة إدارية في غزة.
وعن "الفقاعات الأمنية" ذكر مقال في موقع فايننشال تايمز أن "إسرائيل" تستعد لاختبار نموذج تجريبي لإدارة غزة في مرحلة ما بعد الحرب، من خلال إنشاء سلسلة من "الفقاعات" التي تم تصميمها بحيث تكون خالية من حماس. ويضيف المقال أنه سيتم قريبًا إطلاق المخطط التجريبي لهذه الفقاعات في أحياء العطاطرة وبيت حانون وبيت لاهيا شمال غزة. الملفت أن المقال نفسه والمصادر المطّلعة على الخطة التي نقلت المعلومات حول هذه الفقاعات لا تثق بجدوى الخطة الإسرائيلية، بل يعتبرها البعض "مشرعًا خياليًا".
تتضمّن المرحلة الأولية من الخطة قيام الجيش الإسرائيلي بتوجيه المساعدات من معبر إيرز الغربي القريب إلى الفلسطينيين المحليين الذين تم فحصهم من قبل الجيش الإسرائيلي. وسيكون هؤلاء الفلسطينيون مسؤولين عن توزيع المساعدات والسيطرة تدريجيًا على الحكم المدني في المنطقة. وبحسب الخطة الإسرائيلية، ستبقى قواتها حاضرة في البداية لضمان الأمن الأولي لهذه الفقاعات. وتأمل دولة الاحتلال أنه في حال نجاح التجربة الأولية، يمكن توسيع هذه "الفقاعات" جنوبًا إلى أجزاء أخرى من غزة، لتحل فعليًا محل حكم حماس.
وبموجب المخطّط الكامل، سيتولى مسؤولو السلطة الفلسطينية وغيرهم من القادة المحليين داخل غزة إدارة النظام الجديد، وصولًا إلى تشكيل حكومة تكنوقراط. وسيشمل الحكم المحلي ممثلين عن التحالف الدولي والعربي، ومسؤولي السلطة الفلسطينية، ومقاولين من القطاع الخاص، ورجال الأعمال. وتتصوّر هذه الإستراتيجية، والتي تدعمها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ووزير الدفاع يوآف غالانت، قيام تحالف دولي وعربي شامل يوفر الدعم اللازم لنظام مستدام بعد الحرب في غزة.
كما تشكّل الترتيبات الأمنية أيضًا عنصرًا حاسمًا في الخطة. وهناك خطط لتدريب قوة أمنية فلسطينية محلية من داخل غزة. وستتألف هذه القوة من أفراد أمن سابقين في السلطة الفلسطينية تم تدريبهم في الأردن أو الضفة الغربية تحت إشراف الفريق الأميركي مايكل فينزل. وبحسب المعلومات بدأ ماجد فرج، رئيس المخابرات الفلسطينية، في فحص المرشحين لهذه القوة الأمنية، حيث تم تحديد عدة آلاف من الرجال كمجندين محتملين.
خطة مصيرها الفشل
إذا تطرح إسرائيل تطبيق "القرى المحصّنة" الأميركية على شكل "فقاعات" إسرائيلية. وعليه فإن الأسباب نفسها التي أدّت إلى فشل برنامج هاملت الاستراتيجي ستؤدّي إلى فشل المخطّط الإسرائيلي الأخير. ولعل أهم هذه الأسباب رفض الفصائل فلسطينية دخول أي قوة دولية أو عربية إلى قطاع غزة واعتبار هذا الدخول "غير مقبول وبمثابة قوة احتلال." جاء ذلك في بيان للجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية التي تضم معظم الفصائل الفلسطينية والذي صدر في نهاية آذار/مارس الماضي.
ورغم إعلان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان دعمه نشر قوة دولية في قطاع غزة بقرارٍ من الأمم المتحدة لدعم السلطة الفلسطينية، أعادت فصائل فلسطينية رفض الموضوع. وفي تصريح صحفي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أكّدت الجبهة أن "الشعب الفلسطيني هو الجهة الوحيدة المخوّلة بتحديد مستقبل وشكل السلطة الحاكمة في قطاع غزة".
وبعد صمود المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لما يقارب التسعة أشهر وفشل كيان العدو في تحقيق أهداف الحرب المعلنة، وإصرار نتنياهو على "تحقيق النصر المطلق" غير الواقعي، يمكن القول أن حكومة العدو تمضي نحو فشل جديد في خطة اليوم التالي نتيجة إنكار الواقع الموجود في قطاع غزة. وقد أظهر استطلاع رأي للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية أن 75% من سكان قطاع غزة يعارضون نشر قوة أمن عربية في القطاع. حتى أن الاستطلاع نفسه يؤكّد أن حماس ما تزال تتمتّع بالشعبية الأكبر داخل غزة. وعليه، فإن الواقع والتجربة يثبتان بأن "إسرائيل" إذا استمرّت بحالة الإنكار لن تقوم إلا بإضافة فشل جديد يراكم في رصيد الغرب الجماعي في حروبه ضد الشعوب.
تعليقات