لطالما كان سجن صيدنايا ولفترة طويلة محور حملة دعائية تهدف إلى تشويه صورة الحكومة السورية، كجزء من الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لتغيير النظام في دمشق منذ عام 2011.

فور إطاحة مسلحي هيئة تحرير الشام، بقيادة القيادي السابق في تنظيم القاعدة أبو محمد الجولاني، ببشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعوا إلى إطلاق سراح السجناء في هذا السجن.

وعلى الفور، انتشرت موجة من التقارير الإعلامية حول فظائع السجن. لكن، يبقى السؤال: أي من هذه التقارير عن جرائم حكومة الأسد حقيقية، وأيها مفبرك وجزء من حملة دعائية تهدف إلى شرعنة حكم الجولاني وتبييض الجرائم المماثلة التي ارتكبتها المعارضة في الماضي؟

مجمع سجون ضخم تحت الأرض؟

في 9 كانون الاول/ديسمبر، بعد يوم واحد من سقوط الأسد، كان ويليام كريستو، من صحيفة "غارديان"، من أوائل الصحافيين الذين دخلوا إلى سجن صيدنايا.

ادعى كريستو أنه بعد يوم من سيطرة قوات الجولاني على السجن، عُثر على باب يؤدي إلى "مجمع ضخم تحت الأرض، بعمق خمسة طوابق، وُجد فيه سجناء كانوا يعانون صعوبة في التنفس".

وذكر أن شائعات يتم تداولها بأن "هناك 1500 سجين محاصرون تحت الأرض بحاجة إلى الإنقاذ؛ ربما يكون أحباؤك من بينهم".

ونتيجة لذلك، هرع مئات السوريين المذعورين إلى السجن الواقع على بُعد 30 كيلومترًا خارج دمشق للبحث عن أحبائهم المفقودين خلال الحرب. وبسبب الازدحام كتب كريستو: "تُركت السيارات على جانب الطريق، وتوجه الناس إلى السجن سيراً على الأقدام".

في الأيام التالية، انتشرت مقاطع فيديو غير حقيقية تزعم وجود سجناء في المجمع تحت الأرض، بينما ادعت مراسلة CNN كلاريسا وارد زورًا اكتشاف سجين في مركز احتجاز في دمشق.

وقالت امرأة كانت تتجول في ممرات سجن صيدنايا خلال زيارة The Cradle للسجن: "جئنا لرؤية السجون تحت الأرض". وأضافت أن لها شقيقاً مفقود منذ عام 2018، وأنها ذهبت أولًا إلى سجن المزة العسكري في دمشق، قبل أن تأتي إلى صيدنايا للبحث عن أي أثر له.

مع ذلك، ورغم الجهود التي بذلتها منظمة "الخوذ البيضاء" ومنظمات إغاثة تركية، لم يُعثر على أي مجمع سري تحت الأرض يضم آلاف السجناء.

وقد تمكنت The Cradle من التجول بحرية في المنشأة وتأكدت من وجود طابق واحد تحت الأرض يحتوي على زنازين انفرادية صغيرة لكل منها مرحاض.

صورة لسوريين ينظرون إلى قائمة بأسماء السجناء في صيدنايا لمعرفة ما إذا كان أفراد عائلاتهم المفقودين موجودين هناك

مسلخ بشري؟

في الأيام التي تلت سقوط الأسد، زار مزيد من الصحافيين الغربيين سجن صيدنايا وكتبوا تقارير من هناك. وجميعهم تقريبًا، أشاروا إلى تحقيق أجرته منظمة العفو الدولية عام 2017، وصف السجن بأنه "مسلخ بشري". وادعى التحقيق أن ما يصل إلى 13,000 مدني قُتلوا في إعدامات جماعية خلال فترة أربع سنوات.

وقد حاولت وزارة الخارجية الأميركية تعزيز نتائج تقرير منظمة العفو الدولية بالادعاء بأن جثث الذين تم إعدامهم أُحرقت في "محرقة للجثث" في مبنى مجاور للسجن الرئيسي. غير أنها لم تقدم أي دليل على وجود المحرقة، ولم يدّعِ أحد العثور عليها منذ فتح أبواب السجن.

علاوة على ذلك، يقر تقرير منظمة العفو الدولية بأن عدد القتلى كان مجرد "تقدير" (بين 5000 و13000) استنادًا إلى شهادات أدلى بها أمام المنظمة في تركيا حراس وسجناء سابقون. وقال التقرير إن عمليات الإعدام الجماعي كانت "سريّة"، لكنه زعم بعد ذلك الكشف بطريقة ما عن تفاصيلها الدقيقة.

كذلك تجاهل التقرير أن الحكومة السورية كانت تحتجز أشخاصا خلال هذه الفترة في سياق مواجهة التمرد الذي يقوده تنظيم "القاعدة"، ومن بينهم عناصر من جبهة النصرة و"داعش". 

عندما سأل The Cradle أحد السوريين الذين يدعمون المعارضة عن رأيه في قضية سجن صيدنايا، أشار إلى أن السجن هو "غوانتانامو" سوريا. بمعنى آخر، أنه مخصص لسجناء من الجماعات المسلحة الإسلامية محتجزين بتهم الإرهاب.

ويظهر ذلك بوضوح من خلال انتفاضة سجن صيدنايا الشهيرة عام 2008، عندما انتفض سجناء إسلاميون بشكل أساسي ضد حراسهم. لكن منظمة العفو الدولية تدعي أن السجناء تم إعدامهم جماعيًا "كجزء من هجوم ضد السكان المدنيين".

ورغم أن القوات العراقية والأميركية احتجزت أيضًا أعدادًا كبيرة من مقاتلي القاعدة في سجون في العراق، مثل سجن أبو غريب، تتجاهل منظمة العفو الدولية وغيرها حقيقة أن الحكومة السورية كانت تحتجز مقاتلي القاعدة في سجونها.

صورة لمدخل سجن صيدنايا

صورة لممر في سجن صيدنايا

عمليات نفسية

وهناك سؤال آخر عما إذا كانت شهادات السجناء والحراس السابقين المزعومين التي قُدمت لمنظمة العفو الدولية عام 2017، ولوسائل الإعلام الغربية بعد فتح السجن في 2024، محلا للثقة.

صحافي إسباني زار صيدنايا في الأيام التي تلت سقوط الأسد أخبر The Cradle أنه ارتاب في شهادات قدمها له سجناء سابقون مزعومون. وقال إن وسطاء مرتبطين بحكومة الجولاني الجديدة رتبوا هذه المقابلات، وأن بعض التفاصيل في شهاداتهم بدت خيالية للغاية بحيث يصعب تصديقها. وأضاف: "لكن لم تكن هناك وسيلة للتحقق مما إذا كانت صحيحة أم لا".

كمثال على ذلك، كل التقارير الاخيرة لوسائل الإعلام الغربية تقريبًا تتضمن مقابلات مع عمر الشغري، السجين السابق المزعوم في صيدنايا الذي كان الشاهد الرئيسي في تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2017.

مع ذلك، يظهر التدقيق في شهادة الشغري أنها كانت مفبركة بوضوح. على سبيل المثال، في شهادته أمام منظمة العفو الدولية، زعم أن الحراس كانوا يجبرون السجناء بانتظام على اغتصاب بعضهم البعض أثناء نقلهم من زنازينهم إلى الحمام. وقال: "بينما كنا نسير إلى الحمام، كان [الحراس] يختارون أحد الفتيان، شخص صغير أو شاب... ثم يطلبون من سجين أكبر أن يغتصبه... لا أحد سيعترف بأن هذا حدث له، لكن ذلك حدث كثيرًا".

مع ذلك، خلال زيارتنا إلى صيدنايا، لاحظنا أن كل زنزانة في السجن تحتوي على مرحاض وحوض غسيل خاص بها. في إحدى الزنازين، رأينا ملابس معلقة على حبل فوق الحوض لتجف بعد غسلها. ولم تكن هناك أي إمكانية لأن يقوم الحراس بنقل السجناء خارج زنازينهم للذهاب إلى الحمام كما يزعم سيناريو الشغري.

على مدى سنوات،  قدم الشغري العديد من الادعاءات الغريبة والتي يصعب تصديقها مما أدى إلى تقويض مصداقيته. ونقلت صحيفة "ذا نايشن" عنه أن "الحراس كانوا ينفذون حكم الإعدام في سجين قبل تقديم الوجبة الوحيدة للسجناء في اليوم، وغالبًا ما كانوا يضعون رأس الجثة فوق طبق الطعام، لينزف الدم فوق كومة من الخبز والبطاطا".

وقد كانت فبركات الشغري جزءًا من حملة واسعة تهدف إلى فرض عقوبات قاسية على سوريا. إذ يعمل الشغري لصالح "فريق الطوارئ السوري" (SETF)، وهي مجموعة تم تأسيسها وتمويلها من قبل الحكومة الأميركية للإطاحة بالحكومة السورية. وقدمت المنظمة مساعدات غير قاتلة لمجموعات مدعومة من الولايات المتحدة من الجيش السوري الحر الذي قاتل الجيش السوري بدءًا من عام 2011.

أثناء عمله مع فريق الطوارئ السوري، حض الشغري الكونغرس الأميركي على فرض عقوبات "قيصر" على سوريا، والتي ساهمت في خنق اقتصاد وطنه الأم. وتشبه هذه العقوبات تلك التي فرضت على العراق في التسعينيات، وأدت إلى وفاة مئات الآلاف من الأطفال.

وسُمّيت عقوبات "قيصر" بهذا الاسم نسبةً إلى حرب نفسية زعمت أن مصورًا عسكريًا سوريًا هرّب 55,000 صورة من داخل البلاد، توثق تعذيب وقتل حوالي 11,000 معتقل على يد الحكومة السورية.

لكن، كما لاحظ الصحافي ريك ستيرلينغ، اعترفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بأن ما يقرب من نصف الصور لا تُظهر أشخاصًا تعرضوا للتعذيب حتى الموت على يد الحكومة السورية. بل تُظهر الصور جنودًا سوريين قتلى وضحايا تفجيرات سيارات وأشكال أخرى من العنف الذي ترتكبه الجماعات المعارضة. وتوثيق مثل هذه الوفيات يعد أمرًا طبيعيًا بالنسبة الى أي حكومة في وقت الحرب.

صورة من سجن صيدنايا

مفقودو سوريا

على الرغم من الدعاية المحيطة بسجن صيدنايا، هناك العديد من المؤشرات على أن أعدادًا كبيرة من السوريين تم احتجازهم من قبل الحكومة السورية خلال الحرب، وتعرضوا إما للتعذيب حتى الموت أو للإعدام رميًا بالرصاص.

في أحد المطاعم في دمشق، في الأيام التي تلت سقوط الأسد، شهد موقع The Cradle موظفَين، أبًا وابنه، يخرجان من الغرفة الخلفية وهما يبكيان. وأخيرا صاحب المطعم وزملاءهما بأنهما تلقيا للتو خبر العثور على أسماء أعمامهما الثلاثة، الذين احتجزتهم الحكومة واختفوا منذ عام 2014، في سجلات مستشفى تشرين العسكري، مما أكد وفاتهم.

أحد الأسباب التي قد تكون وراء اعتقال واختفاء العديد من السوريين هو أن أجهزة الاستخبارات السورية كانت تعمل بطرق تشبه أساليب المافيا في كثير من الأحيان. واستغل عناصر المخابرات الخوف من سلطتهم لإجبار السوريين على دفع رشاوى في العديد من جوانب الحياة اليومية.

أحد السوريين من دمشق قال لـ The Cradle إنه لم يكن هناك قانون فعلي يحكم البلاد، بل كان السوريون يعيشون وفق "قانون أرقام الهواتف"، حيث كانت امتيازاتك وقدرتك على حماية نفسك تعتمد على ما إذا كنت تمتلك رقم هاتف شخص نافذ يمكنك الاتصال به إذا حاول عناصر الأمن المحليون ابتزازك أو ما هو أسوأ.

كان من يمتلكون المال أو علاقات سياسية يُفرج عنهم غالبًا، بمن فيهم المحتجزون بتهم الإرهاب، بينما تعفن آخرون في السجون، وتم تعذيبهم وقتل العديدين منهم.

وكتب الصحافي قاسم قاسم في صحيفة "الأخبار" عام 2013 أن الحقيقة "التي لا يمكن إنكارها" هي أن صانع الأفلام الفلسطيني من مخيم اليرموك في دمشق، حسن حسن، "قُتل في سجون النظام." وقال قاسم إن حسن لم يكن إرهابيًا أو "تكفيريًا"، "ولم يحمل سلاحًا ولا فجر نفسه بحزام ناسف"، ومع ذلك قُتل.

صورة من داخل سجن صيدنايا

سجن " التوبة"

لكن، إضافة إلى أولئك الذين اختفوا أو تم تعذيبهم على يد الحكومة، قامت جماعات المعارضة المسلحة أيضًا بتعذيب واخفاء أعداد كبيرة من الناس. ولدى سؤال أحد السوريين من حلب عن المفقودين في سجون الأسد، قال لـ The Cradle  إن الجماعات المسلحة التي تقاتل ضد الأسد كانت تدير شبكات خطف خاصة على غرار المافيا.

وقال: "المعارضة، منذ بداية الحرب، قتلت عشرات الآلاف من السوريين. من لم يدفنوهم في مقابر جماعية، أرسلوا أجزاء منهم إلى عائلاتهم عندما لم تُدفع الفدية لاطلاقهم. حاول أيضًا أن تسألهم عن مكان المفقودين".

في سجن صيدنايا، تحدث The Cradle مع رجل كان يبحث عن ابنه المفقود، الذي كان قائدًا في جماعة معارضة مسلحة تُدعى "بركان الشام" في منطقة الغوطة الشرقية في دمشق.

قال الرجل إنه وابنه اتهما بأنهما عميلان للحكومة السورية من قبل جماعة معارضة مسلحة أخرى، هي "جيش الإسلام" المدعومة من السعودية. هذه الجماعة التي كان يقودها زهران علوش، ابن أحد شيوخ السلفيين البارزين في الغوطة، وصفتها وزارة الخارجية البريطانية بأنها جزء من "المعارضة المسلحة المعتدلة".

وقال الرجل لـ The Cradle إنه وابنه احتجزا في سجن "التوبة" التابع لجيش الإسلام في بلدة دوما، وتعرضا للتعذيب بطرق "أسوأ من تلك في صيدنايا". وفيما أُفرج عنه لاحقًا، لا يزال ابنه مفقودًا. وأضاف انه تلقى أخبارا بأن ابنه موجود في سجن حكومي في المزة. وبعدما بحث هناك ولم يجد شيئًا، جاء إلى صيدنايا للبحث عنه.

وذكرت صحيفة "عنب بلدي" المعارضة عام 2017 أنه رغم وجود شبكة كبيرة من الناشطين في دوما، لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد المعتقلين في سجن التوبة.

أبو خالد، الناشط الإعلامي البالغ من العمر 31 عامًا من دوما، أبلغ الصحيفة أنه فوجئ بعدم وجود تقارير من هذا النوع. وقال: "تتم الاعتقالات العشوائية في جميع أنحاء الغوطة الشرقية." وأضاف أن هذه السجون، وخاصة سجن التوبة، "سيئة مثل سجون النظام السوري، ووفقًا للسجناء السابقين، يبقى العديد من المعتقلين في السجون لعدة أشهر من دون محاكمة".

كذلك ذكرت "سوريا دايركت" المؤيدة للمعارضة عام 2017 انه "تمت إعادة جثمان رجل إلى عائلته بعد ثلاثة أيام من اعتقاله. وقد هدد جيش الإسلام العائلة بأنها إذا تحدثت إلى وسائل الإعلام أو نشرت صور الجثة، فسيتم قتل أفرادها جميعًا".

سجون الجولاني

كذلك قامت جبهة النصرة التابعة لأبو محمد الجولاني أيضًا بسجن وتعذيب العديد من السوريين. وهذا ما تؤكده شهادة ثيو بادنوس، الصحافي الأميركي المستقل الذي خطفته فصائل الجيش السوري الحر عام 2012 وسلمته إلى جبهة النصرة، حيث بقي رهينة لمدة عامين قبل أن تدفع قطر فدية كبيرة لإطلاق سراحه.

عندما كان بادنوس محتجزًا في مستشفى العيون، كان حراسه من جبهة النصرة يضربونه ويصعقونه بعصا كهربائية مخصصة للحيوانات. وكان السجناء الآخرون يُعلقون من معاصمهم في أنابيب السقف، وتتحرك أقدامهم في الهواء كما لو كانوا يركبون دراجة.

عندما سيطرت جبهة النصرة بقيادة الجولاني على محافظة إدلب عام 2015 وشكلت حكومة الإنقاذ الوطني، أنشأت سجونًا جديدة حيث كان التعذيب أمرًا شائعًا أيضًا. وأفادت "عنب بلدي" أن الجبهة احتجزت الناشط الإعلامي المعارض، جودت مالس، في زنزانة مظلمة وقذرة، حيث كان يُعذّب لساعات عدة يومياً حتى غطت الكدمات جسده. قال: "وصلت إلى مرحلة أصبت فيها بالإمساك. كان جسدي بأكمله مغطى باللون الأزرق الداكن". وأضاف: "كان السجناء الآخرون يعتنون بي. لم أكن أعرف ما الذي فعلته خطأ. كنت في حالة رعب".

في نيسان/أبريل 2020، أصدرت منظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" تقريرًا أفادت فيه بأن نساء احتجزن وقتلن في إدلب بتهم "التجديف"، و"التجسس" لمصلحة الجيش السوري، و"الزنا".

لا أحد في سوريا يعرف ما الذي يخبئه المستقبل. لكن ما هو مؤكد هو أن السوريين قد عانوا من أكثر من عقد من الحرب الرهيبة والعقوبات الاقتصادية. تم إلحاق العنف بالمدنيين السوريين من قبل الحكومة السابقة بقيادة بشار الأسد، وأيضًا من قبل الجماعات المتطرفة المدعومة من الخارج التي عملت كأدوات للولايات المتحدة وحلفائها لإسقاط الأسد. والأهم أن معظم هذا العنف وقع بعد عام 2011، عندما بدأت الولايات المتحدة حربها السرية على سوريا نيابة عن إسرائيل.