في تشرين الأول/أكتوبر 2024 فاجأ حليف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزعيم حزب الحركة القومية، اليميني المتطرّف، دولت بهتشلي الجميع باقتراحه منح عبد الله أوجلان، العضو المؤسّس لحزب العمال الكردستاني، إفراجًا مشروطًا إذا نبذ العنف وحل المنظمة. فأوجلان محكوم بالسجن المؤبّد في تركيا منذ عام 1999 والأكراد منذ تلك اللحظة يطالبون بالإفراج عنه أو تخفيف مدة سجنه دون أن يلقوا ردود إيجابية من السلطة التركية. وفي تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته طوّر بهتشلي اقتراحه لإنهاء 40 عاماً من الصراع مع المسلحين الأكراد باقتراحه أن يعقد حزب المساواة والديمقراطية بين الشعوب، المؤيد للأكراد، محادثات مباشرة مع أوجلان.

وبعد مباركة أردوغان لطرح حليفه، حيث اعتبر الرئيس التركي أن هذا الطرح في هذا التوقيت يعد "فرصة تاريخية"، وبعد الزلزال السياسي في سوريا نتيجة سقوط نظام الأسد عقد ممثّلو حزب المساواة والديمقراطية بين الشعوب لقاءً مع أوجلان تبعه لقاء بين الحزب نفسه وبهتشلي بداية العام 2025. فما حدث في سوريا وضع الأتراك في موقع تفاوضي أفضل ستسعى أنقرة لاستغلاله لوضع حد نهائي لما تعتبره تهديدًا كرديًا في سوريا.

الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني: محطات تاريخية

تعتبر تركيا وحدات حماية الشعب الكردية، المجموعة المسلحة التي تقود قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، امتدادا لمسلحي حزب العمال الكردستاني. وبالتالي من أجل فهم موقف أنقرة من أكراد سوريا يجب أن نعود بالقراءة لأهم المحطات التاريخية بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني.

تأسس حزب العمال الكردستاني عام 1978 بهدف إقامة دولة كردية مستقلة تضم المناطق ذات الغالبية الكردية في تركيا وسوريا والعراق وإيران. هذا الطموح اصطدم بسياسات الحكومات التركية التي تنكر وجود هوية قومية كردية مستقلة، حيث اعتبرت الأكراد جزءًا من الأمة التركية وفرضت قيودًا على استخدام اللغة الكردية ومظاهر الهوية الثقافية الكردية. ومنذ تأسيسه، دخل حزب العمال الكردستاني في صراع مستمر مع الحكومات التركية المتعاقبة. فالعلاقة بين الطرفين تميّزت بمراحل دموية متتالية، تخلّلتها محاولات للسلام ووقف إطلاق النار، لكنها غالبًا ما كانت تنتهي بعودة المواجهات. فيما يلي استعراض لأبرز محطات هذا الصراع:

1. تأسيس الحزب وبدايات المواجهة

في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1978، تأسس حزب العمال الكردستاني رسميًا بقيادة مجموعة من الطلاب الماركسيين، من بينهم عبد الله أوجلان، في ناحية ليجا بمحافظة ديار بكر. ومع انقلاب 12 أيلول/سبتمبر 1980 في تركيا، تعرّض الحزب لضربة كبيرة مع اعتقال عدد كبير من أعضائه وقياداته، ما أدى إلى تراجع نشاطه خلال السنوات التالية. لكن في عام 1984، شن الحزب أول عملية عسكرية في ناحية أروه بمحافظة سرت، تبعتها عمليات أخرى واسعة في محافظات مثل هكاري.

2. مبادرات السلام الأولى

في 20 آذار/مارس 1993، أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار بعد محادثات غير مباشرة. ومع وفاة الرئيس التركي تورغوت أوزال في أبريل/نيسان من نفس العام، انتهت هذه المبادرة سريعًا. لاحقًا، وفي أيار/مايو 1993، أعلن الرئيس التركي سليمان ديميرل تعليق عملية السلام بالكامل.

3. إعتقال أوجلان وتصعيد العمليات

في 15 شباط/فبراير 1999، ألقت السلطات التركية القبض على عبد الله أوجلان في نيروبي، وتم نقله إلى تركيا حيث حكم عليه بالإعدام، قبل أن يُخفف الحكم إلى السجن المؤبد بعد إلغاء عقوبة الإعدام. وفي أيلول/سبتمبر 1999، أعلن الحزب وقف إطلاق النار من طرف واحد، لكنه استأنف عملياته العسكرية في 2004، معتمدًا سياسة حرب الشوارع واستهداف المدنيين في المدن التركية الكبرى.

4. عمليات عسكرية ومفاوضات متعثرة

شهدت السنوات التالية تصاعدًا في العمليات العسكرية، أبرزها عملية "شمس" البرية التي نفذها الجيش التركي في شمال العراق عام 2008 بمشاركة 10 آلاف جندي. في المقابل، انطلقت مفاوضات سرية بين الحكومة التركية والحزب في أوسلو عام 2010، لكنها لم تحقق نتائج ملموسة.

5. محاولات جديدة للسلام

في أواخر 2012، أعلن رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان، عن محادثات مع أوجلان في السجن بهدف التوصل إلى سلام. وفي آذار/مارس 2013، دعا أوجلان من سجنه إلى وقف القتال والانسحاب من تركيا، مؤكدًا ضرورة تغليب السياسة على السلاح. استجاب الحزب لهذه الدعوة وأعلن وقف إطلاق النار.

6. عودة المواجهات وتصعيد العنف

في 22 تموز/يوليو 2015، انهارت عملية السلام بعد قيام حزب العمال الكردستاني بقتل اثنين من رجال الشرطة في بيتيهما، مما أدى إلى تجدد الاشتباكات. وفي آب/أغسطس من العام نفسه، أعلن الحزب إنشاء 16 منطقة حكم ذاتي في جنوب شرق تركيا، ما دفع الجيش التركي إلى شن عمليات عسكرية واسعة أعادت السيطرة على هذه المناطق، وأسفرت عن مقتل الآلاف من مقاتلي الحزب، إضافة إلى مئات الجنود الأتراك.

7. ضربات خارج الحدود

بين عامي 2016 و2020، شنت تركيا أربع عمليات عسكرية في ريف حلب الشمالي (عملية درع الفرات)، وعفرين (عملية غصن الزيتون)، وريف الرقة الشمالي ــ غرب الحسكة (عملية نبع السلام)، وإدلب (درع الربيع). فتعتبر أنقرة أن أكراد سوريا المنضوين تحت مظلّة الحماية الأميركية يشكّلون تهديدًا لا يمكن تجاوزه.

 في تلك الفترة نشرت تركيا جيشها مباشرة على الأرض من أجل طرد القوات الكردية من حدودها الجنوبية. وتحقيقا لهذه الغاية، أقامت عددًا كبيرًا من القواعد ونقاط الحراسة لمواجهة وحدات حماية الشعب. كما أعادت تركيا هيكلة وتنظيم فصائل المعارضة المسلحة الموجودة مسبقًا، ووضعتها تحت مظلة الجيش الوطني السوري، كما أنشأت قوة شرطة مدنية. وقد كُلفت فصائل الجيش الوطني السوري بتنفيذ تدابير أمنية عنيفة ضد الأكراد، سواء في عفرين، وبدرجة أقل في رأس العين. ونتيجة لهذه العمليات تراجعت الحوادث العنيفة بشكل ملحوظ في تركيا وانتقلت إلى سوريا حيث سعت أنقرة لحصرها هناك.

ما بعد سقوط نظام الأسد

بعد سقوط نظام الأسد وجد أردوغان نفسه أمام فرصة تاريخية لدفع ما يعتبره تهديدًا لبلاده من قبل الأكراد بشكل نهائي. ويحاول أردوغان في المرحلة الأولى تحقيق هذا الهدف من خلال المفاوضات مع أوجلان وقسد. وفي الوقت ذاته في حال عدم نجاح المفاوضات تُلوّح أنقرة باستعدادها شن عملية عسكرية في شمال شرق سوريا لفرض واقع جديد يراعي مصالحها.

وفي أعقاب الاجتماع في جزيرة إمرالي، الذي جمع نواب عن حزب المساواة والديمقراطية بأوجلان، نُقل عن أوجلان تصريحات قُرئت باعتبارها إشارة إلى استعداده لإنهاء القتال ضد الدولة التركية. وأعرب أوجلان عن استعداده للمساهمة في صنع السلام، معتبرا أن تعزيز الأخوة الكردية التركية هو "مسؤولية تاريخية". ونُقل عنه قوله إنه "مستعد لاتخاذ الخطوات الإيجابية الضرورية"، مشيرا إلى أن الوفد الذي زاره سينقل موقفه إلى الدولة التركية والقوى السياسية الأخرى.

وبالنظر إلى التغيّرات التي طرأت على الساحة السورية، والتي أعطت أنقرة مساحة نفوذ كبيرة، يمكن القول أن سعي الأكراد للحل مع تركيا، ولو في المرحلة الحالية، هو المسار المنطقي للأمور. فالجماعات التي تدعمها تركيا باتت جزءًا من السلطة الحاكمة في البلاد وهذا ما يرفع من فرص نجاح أي عمل عسكري ضد قسد في سوريا. كما أن الضبابية التي تحيط حول موقف ترامب من الملف السوري تشكّل عامل قلق لقسد التي لطالما اعتبرت نفسها محميّة بمظلّة أميركية.

وما يرفع من القلق الكردي ظهور بعض التصريحات التي تأكّد أن ترامب ينوي التخلّي عن الأكراد والانسحاب من سوريا، وهو ما يضع قسد في موقف ضعيف جدًا أمام أنقرة. ففي كلمة له منتصف كانون الأول الماضي قال ترامب: " "لا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها أي علاقة بما يحدث في سوريا. هذه ليست معركتنا. دعها تستمر. لا تتدخل!" وفي مقابلة مع روبرت كينيدي جونيور، حليف ترامب، أعلن كينيدي أن ترامب أكّد له في حديث خاص على ضرورة سحب القوات الأميركية من سوريا كي لا يصبح الجنود الأميركيون "وقوداً للمدافع" في أي صراع.

ظهور هكذا مواقف يعتبر عاملًا إضافيًا يدفع الأكراد نحو التفاوض بهدف دفع أي عمل عسكري تركي قد تكون تداعياته أخطر عليهم. ويبدو أن ما يدور الآن هو جولة تفاوض بين الطرفين مدفوعة بضغط عسكري تركي يتمثّل بضرب مواقع الأكراد في شمال شرق سوريا مع هجمات فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا، على جبهتَي سد تشرين وجسر قرقوزاق في ريف حلب الشمالي الشرقي.

وحتى اللحظة، رغم مواقف أوجلان الإيجابية والضغط التركي المستمر إلا أن مجلس سوريا الديمقراطية ما يزال يؤكّد أن قسد لن تسلّم سلاحها ما دامت الهجمات التركية وهجمات فصائل الجيش الوطني مستمرة في الشمال السوري، مشددًا على أن مناقشة هذا الأمر ترتبط بإنهاء الهجمات وضمان عدم تكرارها. في المقابل لم توافق أنقرة ايضًا على طرح قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، الذي يوافق على إنشاء منطقة منزوعة السلاح ودمج قسد في الجيش السوري ضمن فيلق واحد.

وفي السياق، وبحسب المعلومات، طلبت قسد من الحكومة الجديدة في دمشق، خلال لقائها أحمد الشرع، اعتماد نظام اللامركزية، ودمج قسد بالجيش السوري كفيلق واحد وتخصيص نطاق عملها في مناطق الإدارة الذاتية حصراً، مع الاستعداد للدفاع عن البلاد ضدّ أيّ خطر خارجي، وتوزيع موارد شرق الفرات بشكل عادل على الشعب السوري. ولفتت المعلومات إلى أن الشرع ردّ على ذلك، بتحديد نسبة 80% من واردات النفط والغاز لمصلحة دمشق، وحلّ قسد وتوزيع عناصرها على مختلف الأراضي السورية، وإلغاء جهاز الأسايش، ومنح مهمّة حماية المدن والبلدات للشرطة المركزية السورية. وعليه فإن التباين بين الطرفين ما يزال واضحًا ما يؤشّر إلى ارتفاع احتمالية ذهاب تركيا نحو عمل عسكري موسّع في شمال شرق سوريا.

ولا بد من الإشارة هنا أن ذهاب أردوغان لخيار المفاوضات مع أوجلان ومحاولته في المرحلة الحالية تجنّب العمل العسكري الموسّع مدفوع أيضا بمصلحة داخلية للرئيس التركي. فحاليًا، يقيّد الدستور التركي أردوغان، الذي تولى السلطة منذ عام 2003 كرئيس للوزراء ثم رئيسًا لاحقًا، من الترشح لمنصب جديد ما لم تتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة.

في الوقت الحالي، يحظر الدستور التركي على أردوغان، الذي تولى السلطة منذ عام 2003 كرئيس للوزراء ثم رئيسًا لاحقًا، الترشح لمنصب جديد ما لم تتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة. وقد يكون تأمين الدعم من حزب المساواة والديمقراطية، ثالث أكبر حزب في البرلمان، مفتاحًا للدفع بالتغييرات الدستورية التي تتيح لأردوغان البقاء بالحكم. مع العلم أن السلطة التركية تعتبر التخلّص ممًا تعتبره تهديدًا كرديًا في سوريا أولوية لا يتقدّم عليها شيء، ولكن يبقى من المفيد أن نأخذ بالاعتبار مصالح أردوغان الداخلية التي قد يكون لها تأثيرًا، ولو محدودًا، في خيارات الرئيس التركي.