الإسرائيليون الذين تململوا من رؤيتهم أعلام المقاومة اللبنانية ترفرف بالقرب من الحدود، سيتمعنون طويلاً في المشهد البيروتي ظهر الأحد. ولن يكونوا وحدهم.
اللبنانيون من أنصار المقاومة وخصومها، ومؤيدوها في العالمين العربي والإسلامي ودول الجنوب وحتى في دول الغرب، بما فيها تلك التي تعادي بعض حكوماتها المقاومة، تجسدت أمامهم بالأمس، لحظةً تاريخيةً بمشهدٍ جماهيري، قل نظيره، يقول بالفم الملآن: روح مقاومي الظالم لن تنكسر.
وتقدّر "الدولية للمعلومات" الأعداد بين 700 و900 ألف مشاركة ومشارك وهو حشدٌ ضخمٌ جداً قياسياً بعدد السكان في لبنان، وذلك من دون إحصاء الناس في التجمعات داخل المباني وفي الطرق الفرعية الجانبية.
تجمع عالمي للتحدي
من البرازيل والأرجنتين، إلى إيرلندا والهند ونيجيريا، مروراً بإيران والعراق وتركيا واليمن وتونس والجزائر ومصر ودول الخليج وغيرها، كان الهدير عالياً، مسلمين سنة وشيعة ودروز ومسيحيين ويهود من بلاد بعيدة، ومن نقطة صغيرة على سطح الأرض مساحتها 120 ألف متر مربع فقط، في ملعب المدينة الرياضية في بيروت، بدا كأنَّ أهل الحق يرفعون قبضاتهم في وجه الشر كله.
ما أراده الكيان الاحتلالي نهاية لمقاومةٍ جسَّدها السيد حسن نصرالله- وخليفته السيد هاشم صفي الدين- عندما اغتالهما قبل 5 شهور، حولها المشيعون بعدما أجلوا حزنهم طويلاً بانتظار هذه اللحظة، إلى محطة جديدة لمبايعة المقاومة واحتضانها وكسر الحصار المعنوي الذي حاول خصومها وأعداءها فرضه حولها. حاضرون منذ أكثر من 80 دولة، أتوا. لبنانيون وفلسطينيون وسوريون أتوا من مختلف أنحاء لبنان، كثيرون جاؤوا سيراً على الأقدام، وفي عز الصقيع والبرد، وقطعوا عشرات الكيلومترات مشياً، وكثيرون أمضوا ليلة السبت في ملعب المدينة الرياضية.
جنازة بلا خوف
وعندما قرر العدو إرسال 4 مقاتلات جوية فوق المشيعين، بعد نصف ساعة على انطلاق المراسم الرسمية، لم يتزعزع أحدٌ من مكانه، وحتى عندما كرر فعلته الاستفزازية بعدها بـ30 دقيقة، صرخت الحناجر بأعلى الأصوات بهتافات التحدي "هيهات منا الذلّة".
الصورة بمفارقات كثيرةٍ. هذا "الزعيم" العالمي الطابع، بين أحبته وأنصاره يشيعونه لا مبالين بأرواحهم، بعد أكثر الحروب حقارة ووحشية يشنها العدو على فلسطين ولبنان في تاريخه، وخوفهم لا مكان له الآن أمام حزنهم الجارف، وغضبهم.
أكثر من مجرد رجل، فكرة
المشهد جامع وحاشد داخل الملعب الرياضي، وفي الخارج حيث احتشد في الشوارع المحيطة مئات الألوف من الأشخاص، رجالاً ونساءً وأطفالا، وقد غالب الحزن والبكاء الكثير منهم طوال ساعات مراسم التشييع، كان حافلاً بالإرادة والعزم، وهم يرفعون قبضاتهم تحدياً للقاتل وما يمثله كرمز للاستعمار في غرب آسيا، ويرددون هتافات "لبيك يا نصرالله"، كانت كلها تعني شيئا واضحاً: أنَّ السيد نصرالله، فكرة ورمز مقاوم، لا لأنّه ساند فلسطين ودافع عن لبنان فحسب، وإنما لأنه طوال ثلاثة عقود من زعامته للحزب، ناصر قضايا المظلومين والمحرومين والمضطهدين، وقاتل الشر عندما تجسد في الاحتلال، وفي الإرهاب وفي الهيمنة الصهيونية والغربية.
هذا لم يكن تشييعاً. الحشد غير المسبوق في تاريخ لبنان الذي تجمع، برغم كل محاولات التهويل والتخويف، وبرغم الأحزان التي تلف المناطق والقرى التي حاول الكيان الإسرائيلي تركيعها بتدميرها بدعم وتسليح وتواطؤ من الولايات المتحدة الأميركية، كان يعلن المبايعة والولاء لنهج "السيد الشهيد"، وأيضاً لنهج مقاومة الطغيان مهما كان شكله ومظهره حول العالم كله. لم يطلق أحد رصاصة خلال التشييع، استجابة لمناشدات السيد الشهيد والحزب. هذا ولاء. أحمد، وهو من الكويت، يقول لموقع The Cradle:
“نحن هنا لأننا بحاجة أن نكون هنا… هؤلاء الناس يؤكدون على أنَّ المقاومة نهج وهو سيستمر وباق"
النساء والفتية الذين كانوا يشقون طريقهم بصعوبة بين الناس المتراصة، كانوا كأنهم هائمان، ويحملون صورة السيد الشهيد، يغمرهم حزنٌ طاغٍ، ويتبادلون النظرات مع المارة كأنهم يعزونهم في مصابهم الأليم المشترك، لكن رؤوسهم كانت مرفوعة. إخلاصهم للمقاومة سيستمر، كما تعهد الأمين العام الشيخ نعيم قاسم الذي قال متوجها إلى الشهيد نصرالله:
“إنّا على العهد… يعني يا سيدنا أطمئن، القيادات موجودة والمقاومون موجودون، والمقاومات موجودات، والأبطال المقاومون موجودون، والشعب من كل الطوائف موجود، والأمة موجودة”
المقاومة مستمرة
وكانت بيروت لساعات تشهر رسالة واضحة من الأحرار، عرباً ومسلمين وأجانب، بأنها كانت ولو لساعات معدودة، "عاصمة عالمية للحرية". سلاحهم الحقيقي هو الإرادة، وهذه لم تنكسر... وإنَّ الوحدة بينهم حتمية، وهي تعاظمت... وإنَّ الشهداء الأبطال عندما يرتقون، مثل كوامي نكروما والمهاتما غاندي وباتريس لومومبا وتوماس سانكارا والعربي بن مهيدي واميلكار كابرال وتشي غيفارا والمهدي بن بركة، فإنهم لا يموتون، وإنما يتحولون إلى شرارات ونجوم تضيء الطريق لملايين الناس من بعدهم.
لم يكن هذا حدثاً لبنانياً صرفاً. عشرات الطائرات حطت في مطار بيروت عشية التشييع. محمد، العراقي الثلاثيني الذي جاء من بغداد، يتحدث لموقع The Cradle قائلاً:
"نحن نكمل أنفسنا بمجيئنا، ورسالة المقاومة ستستمر"، بينما يقول عبد الله من مصر حاملاً علم بلاده “أنا هنا لأنني حر. ونصرالله يمثلنا، ولأنَّ إسرائيل مجرمة وكل من يواجهها يمثلني وغيري من ملايين المصريين”
كثيرةٌ هي نماذج الفداء والتضحية حول العالم لقادة ناضلوا ضد الاستعمار والاحتلالات، وكان رحيلهم مدوياً. لكن المؤكد أنَّ العقود الماضية لم تشهد جنازة بمثل هذه المهابة، والاحتشاد مقارنة بعدد السكان، حيث قدرت نسبة المشاركين بأكثر من ربع السكان البالغ عددهم نحو 5.4 مليون نسمة، وهو ما لم يعهده لبنان بتاريخه. وقال الشيخ نعيم قاسم في خطابه "أنتم شعب لا يهزم، سنكون معاً، سنقاوم معاً، سنبايع معاً... جمهور المقاومة والشعب اللبناني تكاتفوا جميعاً وكانوا نموذجاً، الحمد لله هذا الحشد هو تعبيرٌ عن الوحدة الوطنية والوحدة القومية والوحدة الإسلامية والوحدة الإنسانية حول فلسطين وحول الحق".
ويقول عضو مجلس قيادة جبهة العمل الإسلامي في لبنان محمد ملص لموقع The Cradle:
“إن الحشد المهيب والمنظم في التشييع وخطاب الأمين العام الجديد لحزب الله، يظهران حالة التعافي التي تعيشها المقاومة على المستوى السياسي والعسكري، لكنّ مسؤولية استكمال التعافي لا تقع على عاتق الحزب وحده، بل لا بد من أن تواكب من الجميع ونحن في جبهة العمل الإسلامي سنكون حاضرين إلى جانب المقاومة وبإطار العمل تحت عنوان: إنا على العهد”
ويضيف ملص، وهو يتحدر من مدينة طرابلس الشمالية، قائلاً:
"في ظل هذا التشييع المهيب نشعر بمسؤولية مضاعفة تجاه القضايا التي جمعتنا مع المقاومة، وعلى رأسها قضية فلسطين”
"فلسطين حق وهي بوصلتنا"، يقول الشيخ نعيم قاسم، لكن الرسائل اللبنانية من المبايعة الجماهيرية والخطاب، كثيرة ولا تقل أهمية. ويقول الشيخ نعيم إنه "يبدو أنّه يوجد أُناس كثر محتارون ومربكون فينا. ساعة يُحللون أننا انتهينا، والمقاومة انتهت، لكن المقاومة مستمرة بِحضورها وجهوزيتها، ولا يُمكن لأحد أن يسلبنا هذا الحق. والمقاومة خيار الشعوب الحرة للتحرير، المقاومة تُكتب بالدماء، ولا تحتاج إلى الحبر على الورق، وتثبت بالتضحية، ولا يُثنيها من يُعارضها، وتقتلع المُحتل ولو بعد حين. والمقاومة تتخطى نقيق الضفادع".
سيكون لهذه الرسائل صداها المدوي في السفارة الأميركية في عوكر، وبين القوى والشخصيات التي علا صوتها منذ اليوم الأول لحرب "طوفان الأقصى"، ثم اشتعالها بالكامل على الجبهة اللبنانية من خلال العدوان الإسرائيلي، وصولاً إلى اغتيال السيد نصرالله والسيد صفي الدين وكبار القادة العسكريين للمقاومة، مراهنة على انكسار إرادة اللبنانيين في المقاومة، وإخضاعهم للسطوة الإسرائيلية، لدرجة أنَّ بعض هؤلاء وبينهم نواب (منتخبون)، عرفوا بعدائهم لقضايا الحق في فلسطين خلال حرب غزة، تمنوا من خلال مواقف مختلفة لو أنّهم "انهزموا"، والأدق لو أنَّ الكيان الإسرائيلي "انتصر" بالكامل، وتهاوى حزب الله بالكامل.
سيحتم على هؤلاء إعادة حساباتهم ومراهناتهم التي تخالف إرادات الشعوب وقواها الحيّة. وقد تجسدت هذه الإرادة بأبهى صورها في قلب بيروت أمس. "يا دعاة السيادة استيقظوا"، نصح الشيخ نعيم من يهمه الأمر في لبنان.
تعليقات