فيما يتركز انتباه العالم على الهجوم العسكري المستمر الذي تشنّه تل أبيب على غزة، صعّدت حركة الاستيطان الإسرائيلية أعمال العنف التي تجيزها الدولة في الضفة الغربية المحتلة.
مستفيدين من هذا الإلهاء، كثّف المستوطنون اليهود هجماتهم التي بلغت ذروتها مؤخرًا بإضفاء حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "الشرعية" على خمس بؤر استيطانية. هذه الخطوة هي جزء من استراتيجية مدروسة للتوسع الاستيطاني والتطهير العرقي، مما يمهد الطريق للضم الرسمي في نهاية المطاف.
وقد وافقت حكومة الاحتلال على إجراءات اقترحها وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش لإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية، وطرح مناقصات لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية غير القانونية الإضافية، وفرض عقوبات على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
وتعهد سموتريتش، وهو نفسه مستوطن غير شرعي في الضفة الغربية، بأن هذه الإجراءات ستمهد الطريق لإسكان مليون مستوطن جديد.
سجل المستوطنين في العنف والتطهير العرقي
في معرض شجبه لتوسع المستوطنات بمعدلات قياسية، أدان المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، قرار إسرائيل في آذار/مارس الماضي بناء 3476 منزلًا إضافيًا للمستوطنين في الضفة الغربية. بعد عملية "طوفان الأقصى"، وصلت اعتداءات المستوطنين الهائجين على المنازل والشركات والسكان الفلسطينيين إلى مستويات غير مسبوقة.
ووثّقت "هيومن رايتس ووتش" العنف الشديد في تقرير أصدرته في نيسان/أبريل، وجاء فيه: "اعتدى المستوطنون الإسرائيليون على الفلسطينيين وعذبوهم وارتكبوا العنف الجنسي ضدهم، وسرقوا ممتلكاتهم ومواشيهم، وهددوا بقتلهم إذا لم يغادروا بشكل دائم، ودمروا منازلهم ومدارسهم تحت غطاء الأعمال العدائية المستمرة في غزة".
ومنذ بداية الحرب في قطاع غزة، استشهد أكثر من 570 فلسطينيًا في الضفة الغربية، العشرات منهم على أيدي مستوطنين إسرائيليين اعتدوا تحت حماية جيش الاحتلال على سكان القرى العزّل.
إلى ذلك، قامت ميليشيات "فرقة الدفاع" الاستيطانية التي تم تزويدها بحوالى 7000 بندقية بعد 7 أكتوبر، بتنفيذ عملية تطهير عرقي لآلاف الفلسطينيين من حوالى 16 تجمعًا زراعيًا في الخليل، إضافة إلى أربعة تجمعات أخرى قريبة من مدينة رام الله.
ويقول أبيّ العبودي، مدير مركز بيسان للبحث والتطوير، لـ The Cradle: «ما حدث منذ 7 أكتوبر هو أن النظام العام للجيش الإسرائيلي انهار، وبالتالي فإن أي عمل يقوم به أي جندي ضد الفلسطينيين ليس مسموحاً به فحسب، بل مصرّح به أيضاً. إذا نظرت إلى ذلك من منظور تاريخي فهو استمرار وتكثيف لخططهم التاريخية، وهم يرون أن العالم منشغل بما يحدث في غزة، لذلك ينفذون مخططاتهم لإخراج الناس من أراضيهم واستبدالهم بالمستوطنين اليهود».
خطط الضم الإستراتيجية
وأشار تقرير استقصائي نُشر في وسائل إعلام عبرية إلى أنه منذ 7 أكتوبر، أمر وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير الشرطة بالتوقف عن تطبيق القانون ضد أقرانه المستوطنين في الضفة الغربية. هذا الارتفاع في التوسع الاستيطاني، والخروج على القانون، وعنف المستوطنين غير القانونيين يأتي من ضمن ما يبدو أنه جهد متسارع لضم مساحات كبيرة من الضفة الغربية بالكامل.
في شباط/فبراير الماضي، كانت الوثيقة التي قدّمها نتنياهو إلى حكومة الحرب، بعنوان "اليوم التالي ما بعد حماس – مبادئ"، تهدف إلى تأكيد السيادة الإسرائيلية الكاملة على ما يقع غرب نهر الأردن.
ورغم أن دولة الاحتلال فشلت فشلًا ذريعًا في هزيمة المقاومة الفلسطينية في غزة، وأن احتمال ضم الأراضي الساحلية المحاصرة - بموافقة دولية - يبدو ضئيلًا، فإن حركة الاستيطان الصهيونية التي تهيمن حاليًا على ائتلاف نتنياهو الحاكم تستغل الفرصة لتحقيق عدد من أهدافها في المنطقة التي تعتبرها "قلب إسرائيل التوراتي".
ونفذت إسرائيل مؤخرًا قرارًا أعلنه الجيش للمرة الأولى في 29 أيار/مايو، يقضي بنقل المسؤولية عن العشرات من لوائح الإدارة المدنية من الجيش إلى "موظفين مدنيين" يعملون كمسؤولين في وزارة الدفاع الإسرائيلية تحت قيادة سموتريتش. جاء ذلك في أعقاب قرار اتخذته تل أبيب بالبدء في تغيير هيكل الحكم الرسمي للضفة الغربية، من خلال نقل السلطات الإدارية من السيطرة العسكرية إلى السيطرة المدنية، وهي في جوهرها خطوة نحو إعلان الضم القانوني للضفة الغربية.
توسع استيطاني مدعوم من الدولة
حاليًا، هناك حوالى 146 مستوطنة إسرائيلية وحوالى 191 بؤرة استيطانية في الضفة الغربية المحتلة، تسيطر على حوالى 46% من الأراضي. وتقع جميع هذه المستوطنات اليهودية تقريبًا في ما يُعرف بالمنطقة "ج"، التي تشكّل نحو 61% من الأراضي وتخضع للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية الكاملة وفقًا لاتفاقية أوسلو الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1995.
وتعد الإجراءات الأخيرة في الضفة الغربية جزءًا من اقتراح حركة المستوطنين لعام 2017 بعنوان "الخطة الحاسمة" التي تهدف إلى مضاعفة الوجود اليهودي في المنطقة. ورغم أن الخطة لم تُقرّ في ذلك الوقت، إلا أن الحرب في غزة توفر ظروفاً لتنفيذها، ووسائل لتسهيل ضم الضفة الغربية.
وفي آب/أغسطس من العام الماضي، أعلن سموتريتش، الذي يقيم هو نفسه في مستوطنة كيدوميم غير القانونية، نيته تخصيص 120 مليون دولار لبناء مستوطنات وبؤر استيطانية. كما تم الكشف عام 2023 عن أن الجيش الإسرائيلي أنشأ ما يسميه وحدة "حدود الصحراء"، ضمت مستوطنين متطرفين من مجموعات "شباب التلال" المكونة من مستوطنين.
وقد أثار هؤلاء المتطرفون قلقًا كبيرًا إلى درجة أن المخابرات الإسرائيلية شنت عملية لاختراق صفوفهم. فهؤلاء المتطرفون اليهود، المعروفون بتوجيه أسلحتهم نحو جنود الجيش والمدنيين الفلسطينيين على حد سواء، كانوا يعتبرون سابقًا إرهابيين حتى بالمعايير الإسرائيلية.
التمكين السياسي
وفيما زادت هجمات المستوطنين الإسرائيليين على المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى مستويات قياسية بين عامي 2021 و2023، تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن عنف المستوطنين تضاعف في تشرين الأول/أكتوبر 2023 واستمر في التصاعد.
ويتزامن هذا الارتفاع مع منح نتنياهو السياسيين اليمينيين المتطرفين مثل بن غفير وسموتريتش مزيدًا من النفوذ، وتشجيعه آخرين مثل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هاليفي، وهو مستوطن آخر غير شرعي في الضفة الغربية.
وزاد الأمور تعقيدًا اكتشاف أن ميليشيات المستوطنين الإسرائيليين التي تشن هجمات عنيفة وغير مبرّرة على القرى الفلسطينية، استخدمت بنادق هجومية تعود للجيش. كما تتلقى المنظمات الاستيطانية، بما فيها الهيئات القانونية التي تقدم طلبات استئناف في المحاكم الإسرائيلية لهدم منازل الفلسطينيين، تمويلًا من الحكومة. وكل هذا يدل على مدى الترابط بين دولة الاحتلال والعناصر الأكثر تطرفًا في حركة الاستيطان.
لتسهيل هذا المسار، تبرّعت أغنى مليارديرية في إسرائيل، ميريام أديلسون، مؤخرًا بمبلغ 100 مليون دولار لدعم حملة دونالد ترامب الرئاسية لعام 2024، متوقّعة أنه سيعترف بضم إسرائيل للضفة الغربية بمجرد إعادة انتخابه.
إذا واصلت الحكومة الإسرائيلية الضم رسميًا، فمن المتوقع أن تستهدف المنطقة "ج" في الضفة الغربية، وهي منطقة غنية بالمياه والأراضي الزراعية تمثل حوالى 61٪ من الأراضي.
تقنين سرقة الأراضي
في 18 تموز/يوليو، أقر الكنيست الإسرائيلي مشروع قانون يرفض إقامة دولة فلسطينية، مما يدعم أجندة الحكومة القائمة منذ فترة طويلة. فمنذ عام 2017، روّج حزب الليكود الحاكم للمقترحات العامة لضم أجزاء من الضفة الغربية.
ويقول خالد بركات، زعيم حركة المسار الثوري البديل الفلسطيني، لـ The Cradle "لتفسير الموجة الجديدة من الاستيطان الإسرائيلي تنبغي العودة إلى عامي 2005 و2006، عندما كان آرييل شارون رئيسًا للوزراء، وانسحبت القوات الإسرائيلية من غزة بسبب المقاومة. فقد وجد نفسه في موقف حرج، إذ مني بالهزيمة واعتمد استراتيجية احتلال كافة تلال الضفة الغربية".
وأضاف بركات "بعدها أنشأوا منظمات استيطانية مسلحة جديدة، ولهذا يوجد الآن 12 منها، وهي ميليشيا مسلحة، تتعاون بشكل مباشر مع الجيش الإسرائيلي. الخطر الرئيسي وراء ميليشيات المستوطنين هذه في الضفة الغربية هو أنها جهات فاعلة غير حكومية، لذلك عندما تهاجم الفلسطينيين بشكل يومي تقول إسرائيل: حسنًا، لا علاقة لنا بذلك، فهم مجرد سكان الضفة الغربية. إنهم بالطبع ليسوا مقيمين، بل هم مستوطنون استعماريون مسلحون يذكرون الفلسطينيين بالعصابات نفسها التي كانت موجودة في فلسطين في الثلاثينيات والتي أسست النظام الصهيوني بالفعل".
عام 2019، اقترح نتنياهو ضم غور الأردن، مع الاحتفاظ بجيب صغير فقط تحت سيطرة السلطة الفلسطينية. وتتضمن هذه الاستراتيجية الحفاظ على سلطة السلطة الفلسطينية في المنطقتين "أ" و"ب"، اللتين يسكنهما أكثر من 3.2 مليون فلسطيني، لتجنب العبء اللوجستي والمالي للحكم المباشر. وتهدف سياسة نتنياهو إلى ضمان بقاء السلطة الفلسطينية من أجل التعاون الأمني مع تقويض الدولة الفلسطينية وضم أراضي الضفة الغربية في الوقت نفسه.
وبينما تكافح إسرائيل لتحقيق انتصارات عسكرية على حماس في غزة وحزب الله في لبنان، قد يركز نتنياهو جهوده على الضم في الضفة الغربية. وقد يشمل ذلك حملة عسكرية مشابهة لعملية الدرع الواقي عام 2002، لتفكيك مجموعات المقاومة وإظهار صورة النصر بما يضمن احتفاظه لدعم الحلفاء المستوطنين اليمينيين المتطرفين.
تعليقات