تبادلت الهند وباكستان إطلاق النار عبر خط السيطرة الفاصل بين الجزئين المسيطر عليهما من كشمير منذ أكثر من أسبوع، قبل أن تصلا إلى اتفاق هدنة يجري خرقه أحيانا. سبق هذا الإشتباك تبادل للإتهامات بين البلدين بالتخريب وتصعيد الوضع، فالهند تعتقد أن باكستان مسؤولة عن الهجوم الذي سبق هذا الإشتباك في كشمير، حيث تدّعي بأن المسلحين خضعوا لتدريب وتحريض من باكستان، فيما تقول باكستان بأن للهند نوايا عدائية وتريد السيطرة على كامل كشمير.
بعيداً عن الاتهامات السياسيّة، من الناحية العسكرية، يُعتبر تبادل النار هذا فريداً من نوعه، إذ أنه يشكّل المرّة الأولى التي تشتبك فيه قوّتان شبه متناظرتان في العصر الحديث، وخصوصاً من قدرات سلاح الجو الذي كان له الدور الأكبر حتى لحظة كتابة هذه السطور. لا يُمكن تصنيف الصراع في أوكرانيا بالمقياس نفسه، ذلك بسبب التفوّق الروسي الكبير وخصوصاً في مجالات سلاح الجو والأسلحة بعيدة المدى، والذي يسمح لموسكو بخوض الحرب بطريقة العمليّة الخاصّة، أي إبعاد القسم الأكبر من المجتمع والدولة عن نتائج الحرب، فضلاً عن الردع النووي الروسي.
في الحالة الهندية - الباكستانية لدى كلّ من الدولتين سلاح نووي ومستوى متقارب من الأسلحة التقليدية، من الناحية التكنولوجية أكثر منها من الناحية العددية، أي أنه من الصعب أن تجد مجالاً تتفوق فيه إحداهما على الأخرى بطريقة كاسرة للتوازن.
نظرة في تاريخ الصراع العسكري
منذ إنشاء الدولتين في عام 1947 وقد شهد تاريخهما العديد من النزاعات المسلّحة والحروب، منذ ذلك العام نفسه حيث حاولت باكستان الاستفادة من الفوضى القائمة وارسال غارات قبائلية للحصول على ضم مقاطعة كشمير التي كان على رأسها حاكم هندوسي، وصولاً إلى الحرب الثانية في عام 1965 التي جرت بشكل قريب وهدف باكستاني مشابه. تعرّضت باكستان لهزيمة عسكرية في كلا الحربين، ولأن كلا الحربين جرتا على أراضي الإقليم الهندية، لم تخسر باكستان أي أرض ولكنها اضطرت للتراجع.
الهزيمة الثالثة والكبرى لباكستان كانت في عام 1971، وهي حرب الإستقلال البنغلادشية، وهي الهزيمة الأصعب، حيث انتهت بتدمير للبحرية الباكستانية، وأسر أكثر من تسعين ألف جندي باكستاني كانوا في بنغلادش، أو باكستان الشرقية كما كانت تسمى قبل الانفصال. تبعت هذه الحروب بعض المناوشات العسكرية لاحقاً، وأشهرها حرب كارغيل عام 1999، وهي حربٌ محدودة انتهت أيضاً على الخط الفاصل نفسه، على الرغم من تقدّم القوات الباكستانية في البداية، والمجابهة العسكرية في عام 2001-2002.
يمكن ملاحظة مسارٍ معيّن هنا، وهو انتهاء كلّ هذه الحروب حيث بدأت من الناحية الجغرافية، ولكن مع هزيمة عسكرية، إما نسبية أو عظمى لباكستان. يعود ذلك لعوامل عديدة، أهمها الفرق في العديد والتسليح والمقدّرات الإقتصادية والجغرافية لكلّ من البلدين. على عكس ما ظنّ الكثير من منظّري العلاقات الدولية، فإن حصول باكستان على القنبلة النووية في عام 1998، لم يساهم في إرساء توازن نووي ينهي حالة الاشتباك العسكري الدائمة بين البلدين كما حصل بين الإتحاد السوفييتي والغرب مثلاً، حيث يعمل كلّ من البلدين حالياً ضمن المنطقة الرمادية في الحروب، أي اشتباكات محدودة وعرض قوّة بدون تهديدٍ وجوديٍّ للطرف الآخر.
التوازن القائم حالياً
من الناحية العسكرية ما زالت الهند تتفوّق في معظم المجالات على باكستان، من ناحية عديد القطع العسكرية في أذرع القوات المسلّحة المختلفة، ولكن أيضاً حتى بالعديد البشري، وهذا يعود أيضاً للفرق بعدد السكان نفسه، 245 مليون لباكستان في مقابل 1،42 مليار نسمة للهند، فضلاً عن الفرق بالناتج المحلي الهندي والذي هو 11 ضعف مثيله الباكستاني، مع ما يعنيه ذلك من القدرة على استيراد وتصنيع أسلحة بعدد أكبر، وينعكس هذا على قطاع إنتاج عسكري أوسع وأكثر نضجاً لدى الهند. ينعكس ذلك على عدد القوات المسلّحة أيضاً، حيث تملك الهند أكثر من ضعف القوات الباكستانية، كعسكر نظامي كما في الإحتياط.
هذه الفروقات الهائلة في القدرات تجعل باكستان تقوم بالارتكاز بشكل أكبر على مفهوم الردع النووي الذي تملكه، كما على محاولة الحفاظ على التوازن العسكري بين سلاح الجوّ الهندي والباكستاني من ناحية القدرات والعدد. ففي حين تملك الهند تقريبا ضعفين من كلّ أنواع الأسلحة التي تملكها باكستان، فضلاً عن عشرة مرّات عدد العربات المدرّعة على اختلاف أنواعها، تبدو الفروقات لسلاح الجوّ فالفروقات أقل بكثير مع تفوّق نسبي للهند. يعود ذلك للأهمية التي يوليها الباكستانييون لسلاح الجوّ، من ناحية التسليح، الإعداد، التدريب والتخطيط على أحدث التقنيات والتكتيكات، وسنرى ذلك لاحقاً في تحليل اشتباك الأسبوع الماضي.
في نظرة على أسلحة جوّ كلا الطرفين، تملك الهند تفوّقاً من الناحية التقنية والعددية، خصوصاً مع طائرات الرافال الفرنسية التي تملك رادارات حديثة بمصفوفة مسح نشطة إلكترونية (AESA)، تسمح بالرصد والإشتباك مع عدد أهداف أكبر فضلاً عن مقاومة أعلى للتشويش وقدرة على العمل بصمت بدون أن تُكشف. تملك الهند أيضاً أسطولاً واسعاً من الطائرات الروسية سوخوي-30 والميغ-29، وهو يتعدّى الـ300 طائرة، وهي ذات مناورة ممتازة وقدرة دفع عاليّة، ولكنها تعاني في مجال الرادارات حيث ما زالت تستخدم رادارات روسية أقدم بمصفوفة مسح سلبية إلكترونية (PESA) الأمر الذي يحدّ من قدرتها على الإشتباك من مسافات بعيدة، كما وعلى الرصد ومقاومة التشويش.
تستخدم الهند أيضاً طائرات أقدم من طراز "ميغ-21" كما و"ميراج-2000" أصبحت في آخر أيام عمرها حيث تخطّط الهند لكي تتقاعد هذه الطائرات في السنوات المقبلة. تتفوّق الهند بامتلاكها طائرات إدارة عمليات جويّة وإنذار مبكر (AWACS)، من صنع روسي وهي الـA-50، وقد خضعت لتحديثات إسرائيلية من طراز ELM-2090، الأمر الذي منحها أيضاً القدرة على القيام بالتجسس على الاتصالات واستخبار المعلومات. تعمل هذه الطائرات الضخمة خلف الطائرات المقاتلة وتقوم بإدارة العمليات وتوجيهها باستخدام الرادارات طويلة المدى، ففي حين قد يبلغ مدى رادار الطائرة المقاتلة في رصد طائرة أخرى غير خفيّة حوالى الـ150 إلى 200 كلم، يمكن لطائرات الأواكس رصد الطائرات من مدى 400-450 كلم.
تملك باكستان في المقابل أسطولاً من الطائرات الصينية المقاتلة الخفيفة JF-17 من الجيل الثالث، كما وطائرات الـJ-10C الصينية المتوسطة الحجم، وهي بشكل أساسي طائرات تصديرية صينية بمواصفات حديثة وأسعار تنافسية للدول النامية. لا يجب أن تخدع كلفة هذه الطائرات الناظرين، فهي طائرات تملك رادارات AESA حديثة تتفوق على أغلب الطائرات الهندية، ومسلّحة بصواريخ صينية من خارج مدى البصر (BVR) من نوع PL-15 النسخة التصديرية والذي يتداول بأن مداه بين 150 و200 كلم. بالإضافة لذلك تشغّل باكستان عدداً من طائرات الإف-16 الأقدم والتي تعود للثمانينيات والتسعينيات، وهي طائرات جيّدة ولكن يمكن مقارنتها بالميغ-29 الهندية مثلاً من ناحية القدرات. من ناحية طائرات الأواكس تمتلك باكستان طائرات سويدية من نوع ساب 2000 Erieye، وهي إن كانت أقل قدرة من مثيلاتها الهندية ولكنها جيّدة المواصفات.
الإشتباك الجوي الأضخم منذ الحرب العالمية الثانية
قمنا بالتركيز على المقارنة الجوّية، نظراً لأن الإشتباك الحالي الذي حصل منذ عدّة أيام كان جوياً بمجمله، مع بعض الضربات المدفعية وتحريك القوات على طول الخط الفاصل، بالإضافة لبعض الضربات باستخدام المسيّرات الإنتحارية الإسرائيلية لدى الجانب الهندي، أو التركية لدى الجانب الباكستاني.
في اشتباك جوّي يُعتبر الأضخم من ناحية العدد منذ الحرب العالمية الثانية، تمكّنت القوّات الباكستانية من إسقاط 4 إلى 5 مقاتلات هندية في 8-9 أيار/مايو. المميّز في هذه المعركة الجوّية هي أنه للمرة الأولى تمّ استخدام الصواريخ خارج مدى الرؤية بهذه الكثافة وضمن ميدان معركة فيه نوع ما من التوازن العسكري. بالإستناد على الدلائل الموجودة من صور الحطام في الأراضي الهندية، يمكن تأكيد إسقاط 4 طائرات، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن العدد الإجمالي يصل إلى 5 طائرات، 3 رافال وواحدة ميغ-29 وأخرى سوخوي-30. يظهر حطام آخر المعزّزات الصاروخية لصواريخ الـPL-15 الصينية التي أطلقت على الأرجح من طائرات JF-17 أو J-10C الباكستانية.
يظهر بحسب الضربات الإبتدائية الهنديّة أن سلاح الجو الخاص بهم استخدم صواريخ جو-أرض فرنسية من طراز سكالب/ستورم شادو والذي تطلب من مقاتلات الرافال أن تقترب بشكل كبير من الأراضي الباكستانية. ويظهر أيضاً من عدم وجود أدلّة على إسقاط طائرات باكستانية، أن الطائرات أطلقت من عمق مجالها الجوي، ويدور الترجيح حول عملها بصمت راداري لعدم إنذار الهنود، أو حتى يمكن لها أن تختبئ خلف الجبال في تلك المنطقة نظراً لارتفاع تضاريها، قبل أن تصعد وتقوم بالرمي باستخدام المعلومات التي حصلت عليها من طائرات الاواكس التي تطير في عمق باكستان بدون أن يتمّ كشفها. في المراحل الأخيرة يقوم الباحث الراداري للصاروخ نفسه بتوجيه الصاروخ بدون الإعتماد على التوجيه عبر الأواكس أو الطائرة المقاتلة.
الضربات اللاحقة ومستقبل المواجهة
تلت هذه المواجهة الجويّة محاولة هندية لتسديد ضربات نحو أهداف عسكرية باكستانية، وهنا نتحدّث عن المطارات بشكل رئيسي. تظهر صور الأقمار الصناعية تدمير عدد من المنشآت داخل هذه المطارات، من بنى قيادة، المدارج، رادار وبعض الهانغارات الخرسانية التي ترقد فيها الطائرات، ولكن حتّى هذه اللحظة ليس هناك من دليل على تدمير طائرات باكستانية في مطاراتها. ينطبق هذا الأمر أيضاً على الهند، حيث تعرضت بعض مطاراتها ومستودعات أسلحتها للضربات، ولكن بدون أدلّة على تدمير طائرات أو منظومات أسلحة كالإس-400 الذي يدّعي الباكستانيون أنهم تمكّنوا من ضربها مثلاً.
تستخدم الهند بشكلٍ رئيسي طائرات الهاروب الإنتحارية الإسرائيلية في هذه الضربات، فضلاً عن صواريخ البراموس الهندية-الروسية المجنحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وهي تنتمي لعائلة صواريخ الياخونت البحرية ويمكن لها استهداف أهداف في البر والبحر بدقّة عالية وسرعة كبيرة تصعّب من اعتراضها. في المقابل تستخدم باكستان مروحة من الصواريخ البالستية قصيرة المدى ومحليّة الصنع مثل الفتّاح بمدى 150 كلم، وحتف بمدى 70 كلم بحسب المعلومات المتوّفرة، فضلاً عن مسيّرات الييها-3 الإنتحارية التركية.
تعتمد الهند حتّى هذه اللحظة ما تسمّيه بمبدأ البداية الباردة (CSD)، وهو استراتيجية عسكرية طورها الجيش الهندي للسماح بضربات تقليدية سريعة ومحدودة ضد باكستان دون عبور ما يسمى بالعتبة النووية. تعتمد هذه الإستراتيجية على تشكيلات قتالية متكاملة تتحرك خلال 48–72 ساعة، لضرب أهداف عسكرية داخل باكستان بشكل محدود، مع تجنب استهداف مدنيين أو مواقع استراتيجية لتفادي تصعيد نووي. جاء رد باكستان على هذه العقيدة بنشر صواريخ نصر/حتف النووية التكتيكية لردع أو مواجهة هذه الهجمات السريعة.
خلاصة
تواجه كلّ من حكومتي البلدين ضغوطاً داخلية للتصعيد، وخصوصاً أن حكومة نارندرا مودي في الهند تقوم على فكرة قومية هندوسية متطرفة، وسيكون التراجع مكلفاً جداً أمام باكستان، فيما في باكستان يملك الجيش نفوذاً عالياً جداً ويتحكّم بالسياسات الحكومية بشكل كبير، وسيكون من مصلحته التصعيد نظراً للصعوبات الاقتصادية والانقسام السياسي الذي تمرّ به البلاد بعد الإنقلاب الذي تعرّض له عمران خان في العام الماضي.
من الممكن أن تستمرّ الضربات على هذا المنوال لعدّة أيام أو أسابيع قبل أن نشهد نقطة تحوّل ما إما نحو التصعيد أو التهدئة بشكل كامل. يواجه التصعيد معوّقات عديدة، أهمها أن كلا البلدين يملكان السلاح النووي، وحافة استخدامه هنا، خصوصاً في الحالة الباكستانية مبهمة وغير معرّفة بشكل دقيقة. يعني ذلك أنه في حالة الانتقال نحو استهداف الأسس الإستراتيجية للبلاد أو محاولة اجتياح هندي لباكستان، يمكن أن تنزلق الأمور بشكل سريع نظراً لأن باكستان بعكس الهند تفتقد للعمق الإستراتيجي، وهذا ما يجعلها مرتابةً أكثر من مآل أيّ حدث.
من ناحية القدرات العسكرية البريّة، كلا البلدين يملكان جيوشاً هائلاً، وإن كانت الهند تملك المقدّرات الكبرى هنا، ولكن باكستان تملك حدوداً مشتركة مع الصين التي لديها مصلحة في تحجيم الهند كمنافس ضخم محليّ، ومن المستبعد إذا انزلقت الأمور لحرب بريّة أن تقف مكتوفة الأيدي وتسمح للصراع أن يتطور بطريقة تسمح للهند بالسيطرة على كامل كشمير وقطع خط التواصل الصيني-الباكستاني، وبالتالي تدمير مبادرة الحزام والطريق.
حتى بدون أي دعم خارجي، من المستبعد أن يكون أي طرف من الطرفين قادراً على اجتياح الآخر بشكل كبير نظراً للخسائر البشرية والاقتصادية المحتملة التي يمكن أن تصل لمستويات الحروب العالمية، ونظراً لأن كلا النظامين السياسيين هشّان، من المستبعد أن يكونا قادرين على احتمال هكذا خسائر في حرب تقليدية، الأمر الذي يعزّز احتمال الحرب النوويّة، والردع النوويّ، ويمنع التصعيد بالتالي.
تعليقات