يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنّه يقود إسرائيل إلى "نصرٍ تام" سيُغيّر "وجه الشرق الأوسط"، غير أنّ مساره العملي يفضي إلى ترسيخ نظام شبه ديكتاتوري، وإعادة تشكيل بنية الدولة الإسرائيلية، وتأجيج بوادر صراع داخلي.
مطلع آذار/مارس الماضي، قبل تراجعه عن هدنة غزة، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي: "نستعد للمراحل التالية من الحرب على سبع جبهات". وفيما أعدّ الجيش خططاً للتعامل مع تلك الساحات، فإن جبهةً ثامنة تتشكّل داخل إسرائيل نفسها في غياب استراتيجية فعّالة لمواجهتها.
رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يحاكم بتهم فساد، يُرسّخ تدريجيًّا ما لا يمكن وصفه إلا بنظام شبه ديكتاتوري: يُقصي خصومه السياسيين ويسعى لوضع كل مفاصل السلطة في قبضته. وقد أدّى ذلك إلى اندلاع مواجهة بينه وبين بعض دوائر جهازه الاستخباري.
قبل هجوم حماس المباغت على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان الائتلاف الحاكم الذي فاز في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022 يدفع باتجاه تعديل جذري للسلطة القضائية وفرض تشريعات تُحدث تغييرات جوهرية في بنية الدولة. آنذاك، حذّر الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ من أنّ شبح الحرب الأهلية يخيّم على البلاد.
أثارت الإصلاحات القضائية موجة احتجاجات أسبوعية في مدنٍ مثل تل أبيب والقدس المحتلّة، خشية أن تؤدي إلى تقويض النموذج الديمقراطي الليبرالي على الطراز الغربي، وتكريس تهويد الدولة وسلبها طابعها العلماني. وشارك في بعض هذه التظاهرات مئات الآلاف من المحتجّين، وحظيت بدعم أحزاب المعارضة الإسرائيلية وبعض دوائر الاستخبارات. كما أيّد "الهستدروت" ــ أكبر نقابة عُمّالية في إسرائيل ــ إضرابًا عامًا في آذار/مارس 2023، فيما امتنع عدد من أفراد الجيش الإسرائيلي عن الالتحاق بالخدمة.
في الوقت الراهن، لم يعد جوهر أزمة نتنياهو الداخلية يتمحور حول الإصلاحات القضائية؛ إذ بات الغضب الشعبي موجّهًا إلى قراره بالتخلّي عن صفقة تبادل الأسرى مع حماس، إلى جانب سلسلة من الفضائح الداخلية. ومع ذلك، فإن الأجندة التي يمضي في تنفيذها تنسجم تمامًا مع الدوافع الكامنة وراء مسار الإصلاح القانوني نفسه.
الاستيلاء على السلطة كاملة
تهدف الإصلاحات القضائية التي قسمت المجتمع الإسرائيلي عام 2023، إلى تقييد صلاحيات المحكمة العليا. فإسرائيل التي لا تملك دستورًا، استقت نظامها من النموذج المعمول به إبّان الانتداب البريطاني والحكم العثماني لفلسطين. وبالتالي شكّلت المحكمة العليا لسنوات حاجزًا يحول دون إقدام السياسيين في الائتلافات الحاكمة على إجراء تغييرات جذرية في طبيعة الدولة، وعملت كقوة موازنة للنظام الحاكم.
التعديلات التي اقترحها نتنياهو على هذا النظام، والتي يمكن وصفها بشكل أدق بإعادة هيكلة الجهاز القضائي، تمنح ائتلافه القدرة على إعادة تشريع القوانين، والسيطرة على طريقة اختيار قضاة المحكمة العليا، وتقليص صلاحياتها بشكل كبير في ما يتعلق بإلغاء القوانين وكأنها لم تكن. ومن الأمثلة على ذلك "قانون المعقولية"، الذي تم تمريره في تموز/يوليو 2023، والذي هدف إلى منع المحكمة العليا من إلغاء القرارات الحكومية التي تُعتبر "غير معقولة بشكل كبير".
بشكل عام، كان يُنظر إلى حكومة الائتلاف اليميني المتطرف المكونة من أحزاب دينية متشددة، على أنها تسعى إلى استغلال الإصلاحات القضائية لتمرير سلسلة من القوانين من شأنها تحويل إسرائيل إلى دولة دينية. وبطبيعة الحال، كان العديد من الإسرائيليين في الجيش، والأجهزة الاستخبارية، والأحزاب السياسية، وأوساط النخبة المالية، يشعرون بالقلق حيال هذه التغييرات في طبيعة دولتهم ومؤسساتها، مما أثار رد فعل قويًا ضد نتنياهو.
مع اندلاع الحرب على غزة، شكّلت إسرائيل حكومة طوارئ حربية ضمّت مجموعة من كبار المسؤولين من مختلف الأطياف السياسية. ورغم الصدمة الكبيرة الناتجة عن الهزيمة المفاجئة لقيادة الجنوب الإسرائيلية والتركيز على ما سيحدث لاحقًا، تراجع الاهتمام بمسألة الإصلاحات القضائية لبعض الوقت. لكن، كانت هناك إشارات واضحة إلى أن الأزمة الداخلية لم تنتهِ، إذ سارع رئيس الوزراء إلى تحميل قادة جهاز الاستخبارات مسؤولية فشل 7 أكتوبر، ولم تنجح اعتذاراته في الحؤول دون حدوث صراعات داخلية.
بحلول حزيران/يونيو 2024، وبعد صدامات متكررة مع نتنياهو، استقال عضو المعارضة الإسرائيلي البارز بيني غانتس، تلاه رئيس الأركان السابق في الجيش غادي آيزنكوت، من حكومة الحرب، مما أدى إلى حلّها. وكانت هذه اللحظة التي بدأت فيها أجندة نتنياهو للسلطة، والتي ظهرت للمرة الأولى في معركة الإصلاحات القضائية، تعود لتأخذ شكلًا جديدًا.
في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وبعد سلسلة متواصلة من الخلافات مع رئيس الوزراء، اضطر وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، يوآف غالانت، للاستقالة. أتاح ذلك لنتنياهو استبدال غالانت ببسرائيل كاتس الذي يُعدّ من مؤيديه المخلصين رغم قلة خبرته، كما منح خصمه السابق من اليمين، جدعون ساعر، منصب وزير الخارجية.
المعارضة تتصدّى
في الشهر نفسه، وُجهت تهم بتعريض أمن الدولة للخطر إلى اثنين من مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي ونقل معلومات سرية إلى نتنياهو من دون المرور بالقنوات الرسمية المعتمدة. ظهرت هذه المعلومات وغيرها نتيجة لفضيحة "ملفات بيبي"، إلا أن العديد من التفاصيل تم حجبها لفترة طويلة بسبب أمر رقابة مفروض على وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وذكرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية آنذاك أن "الدائرة المقربة من نتنياهو غارقة حتى عنقها في التحقيقات"، وسط نزاع مع رئيس جهاز الشاباك (الاستخبارات الداخلية) رونين بار. كما أوضحت وسائل الإعلام الإسرائيلية كيف تمكن رئيس الوزراء من حماية نفسه من المسؤولية الجنائية من خلال إنشاء "منطقة حصانة لنفسه، عبر طبقة من المساعدين والمستشارين يفصلونه عن الشبهات".
طالما أن تحقيقات الشاباك تقتصر على المعلومات المسربة، يبقى نتنياهو في منأى عن المساءلة. من المهم أيضًا الإشارة إلى أن الشرطة الإسرائيلية غير قادرة على اتخاذ أي إجراءات ضد رئيس الوزراء بسبب تأثير وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير الذي غادر منصبه إلى أن استؤنفت الحرب على غزة، وهو ما تزامن مع التصعيد الأخير بين نتنياهو ورونين بار.
وسط هذه التطوّرات، قرّر نتنياهو أيضًا تسليم دفّة قيادة مفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار مع حماس إلى مساعده المقرّب رون دِرْمَر، مُجرِّدًا جهازَي الموساد والشاباك من الصلاحيات التي كانا يتمتعان بها سابقًا. وعُدَّ هذا بمثابة انقلابٍ مصغّر؛ إذ إنّ رئيس الوزراء بات يتحكم بمسار المفاوضات بالكامل.
عقب ذلك، عُيّن رئيس أركان جديد للجيش الإسرائيلي. وقع الاختيار على إيال زامير الذي سبق أن شغل منصب السكرتير العسكري لنتنياهو ويحافظ على علاقة وثيقة معه منذ سنوات. بعد ساعاتٍ من توليه المنصب، شرع زمير في إعادة تشكيل القيادة العليا للجيش عبر سلسلة تعيينات أساسية، مركِّزًا على تجهيز القوات المسلحة لمواجهة تصعيدات تتماشى مع استراتيجية رئيس الوزراء القاضية بخوض حرب على سبع جبهات.
كما حدث تطوّرٌ بارز آخر تمثّل في إجبار الناطق باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري على الاستقالة. وكان هاغاري يحظى بثقةٍ واسعة بين الإسرائيليين، غير أنّ الخلافات بينه وبين رئيس الوزراء تصاعدت مع استمرار الحرب على غزّة. وأظهر استطلاع للرأي أُجري في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أنّ 4 % فقط من الإسرائيليين يثقون برئيس حكومتهم، مقابل 73.7 % عبّروا عن ثقتهم بالمتحدث العسكري. وعلى مدار الحرب، بقيت شعبية هاغاري مرتفعة.
عودة إلى المحكمة العُليا
في 21 آذار/مارس، بلغ الصراع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ورئيس الشاباك ذروته حين أعلن نتنياهو إقالة الأخير. وقد فجّر القرار احتجاجاتٍ حاشدة في الشوارع، وجرى تجميده مبدئياً بقرار احترازي أصدرته المحكمة العُليا. وفيما يؤكد بار أنّ الإقالة تفتقر إلى مبرّر قانوني، تصرّ الحكومة على أنّ "فقدان الثقة، الذي لا يتيح بيئة عمل منتجة"، يُشكّل سبباً كافياً لإقالته.
الخلاف بين بار ونتنياهو بلغ حدّاً أفضى إلى أزمة داخلية جرّت الائتلاف الحكومي إلى ساحات القضاء، فيما أخذت الفضائح التي كُشف عنها سابقاً تتفاقم. وزيادة في التعقيد، وجّهت المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ‑ ميارا، اتهاماً لنتنياهو بوجود "تضارب مصالح" في قراره إقالة بار، ما أدّى إلى إقالتها هي الأخرى.
بعد فضيحة جديدة معروفة باسم "قطر غيت" تتعلق بمساعدي نتنياهو، طالب رئيس نقابة المحامين الإسرائيلية أميت بيشر وزير العدل ياريف ليفين بوقف عملية إقالة المستشارة القانونية للحكومة فورًا. وكان الصحافي في "هآرتس" بار بيليغ كشف عن فضيحة "قطر غيت" في تشرين الثاني/نوفمبر، لكن اعتقال اثنين من مساعدي رئيس الوزراء مؤخرًا أعاد القضية إلى دائرة الضوء في وسائل الإعلام. وهي تدور حول مساعدين يعملون في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي تقاضوا أموالًا للعمل في حملة علاقات عامة لمصلحة لقطر.
بعدها، تدخلت المحكمة العُليا لتجميد قرار إقالة رئيس الشاباك بشكل مؤقت، مما أثار موجة من الانتقادات للمحكمة من أعضاء في ائتلاف نتنياهو. وبذلك، عاد الجدل حول تحدي المحكمة العُليا إلى الواجهة، ليجد رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه أمام قرار بشأن ما إذا كان سيحاول إضعافها. فيما هو الآن في نهاية عملية تطهير بطيئة لتهميش كل الأصوات المعارضة.
ردًا على ذلك، حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت من أنه "في المرحلة القادمة، سيستولي الشبان المتطرفون الذين تغذي عنفهم ماكينة بيبي السامة على استوديوهات الأخبار التلفزيونية، كما هددوا من قبل المحكمة العليا. مئات من الميليشيات المسلحة، المدعومة من وزير الأمن القومي بن غفير سيقتحمون استوديوهات التلفزيون... لسحب المذيعة يوني ليفي من قناة 12 والمذيعين أودي سيغال ورافي دروكر من قناة 13، إضافة إلى مذيعين ومراسلين آخرين".
يصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي باستمرار على أن مساعديه ضحايا "مطاردة ساحرات" معقدة، ويتعرضون للاضطهاد السياسي. لكن الجانب الآخر من القصة هو أن معارضي نتنياهو واضحون في معارضتهم له، وهم يعقّدون حياته بشكل واضح.
رغم أن نتنياهو أحاط نفسه بالموالين وأقصى أي منافسين محتملين، فإنه يواجه معضلة تنفيذ مطالب التيار المتطرّف داخل ائتلافه. وإذا ما أُضيف وضع الاقتصاد الإسرائيلي حالياً، مع هجرة نحو 1,700 من الأثرياء و8,300 عامل في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، تجد الحكومة نفسها في موقف شديد الصعوبة. يُضاف إلى ذلك رفض نحو 100,000 من جنود الاحتياط الالتحاق بالخدمة.
كما يصف الصحافي الإسرائيلي عوزي برعام، هناك "معركة على روح إسرائيل".
فالمجتمع اليهودي ‑ الإسرائيلي يخوض حرباً داخلية قد تعيد رسم ملامح المشروع الصهيوني، فيما لا يزال الجيش الإسرائيلي عاجزاً عن حسم حروبه المتواصلة على أكثر من جبهة.
وقد حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك من هذا الوضع بالقول: "ببطءٍ وصمتٍ، يقود نتنياهو إسرائيل إلى نقطة اللاعودة. ستأتي لحظة انهيار الديمقراطية من دون سابق إنذار، وحينها لن يكون بإمكاننا وقفها. وحده الأعمى أو الجبان من يعجز عن رؤية الحقيقة المؤلمة لأزمتنا الحرجة".
كذلك يُحذّر زعيم المعارضة ورئيس الوزراء السابق يائير لابيد الآن من اغتيالات سياسية داخل إسرائيل. وقال الأسبوع الماضي بنبرة تنذر بالسوء:
“أُطلق الآن تحذيرًا يستند إلى معلومات استخبارية قاطعة: نحن في طريقنا إلى كارثة أخرى. هذه المرة ستأتي من الداخل. مستويات التحريض والجنون غير مسبوقة. ستكون هناك جرائم قتل سياسية هنا. سيقتل اليهود يهودًا”.
للحفاظ على وجوده في الساحة السياسية، يبدو أنّ نتنياهو مستعدّ للمضيّ قدماً في طريق احتكار السلطة المطلقة وتقويض مؤسّسات الدولة. ووفقاً لصحيفة "معاريف"، فإنّ "60٪ من الإسرائيليّين يرون خطراً حقيقيّاً لاندلاع حربٍ أهليّة". في الوقت نفسه، انضمّ مئات من قدامى جهاز "الموساد" إلى جنود الاحتياط في الجيش وشخصيات سياسية وعسكرية واستخباراتية سابقة، لتوقيع رسالة تدعو إلى إبرام صفقة لتبادل الأسرى مع غزّة.
تعليقات