يُعبَّر عن استراتيجية الحرب غير المتكافئة بنظرية "الضفدع المغلي". تقول الأسطورة إن الضفدع الذي يوضع في وعاء من الماء فوق موقد سيبقى في الوعاء مع الارتفاع التدريجي للحرارة، ولن يقفز خارجه حتى مع اقتراب حرارة الماء ببطء من بلوغ درجة الغليان. فالتغيّر في الحرارة يكون تدريجيًا جدًا بحيث لا يدرك الضفدع أنه يتم غليه إلا بعد فوات الأوان.
هذا ما يقوله اللفتنانت جنرال ديفيد بارنو المتقاعد من الجيش الأميركي، في كتابه "التحديات في مكافحة التمرد العالمي".
اليوم، تستخدم إيران وحلفاؤها الإقليميون نهجًا محسوبًا لزيادة درجات الحرارة في غرب آسيا، إلى أن يغلي الماءُ "الضفادعَ" الأميركية والإسرائيلية حتى الموت. الاستراتيجية والانضباط والصبر سيحقّقون النصر لإيران. اعتادت حركة طالبان القول إن "لدى الأميركيين ساعات يد، لكن لدينا الوقت"، والوقت في مصلحة الحرس الثوري الإيراني. في ما يأتي مثالان مترابطان حول كيفية قيام الحرس الثوري، كعلماء المختبرات، بضبط درجات الحرارة.
الولايات المتحدة الأميركية
بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، نشر بايدن أصولًا بحرية أميركية في الخليج والبحر الأبيض المتوسط لـ "الدفاع" عن إسرائيل. عبرت سفينة "يو إس إس أيزنهاور" والقطع المرافقة لها مضيق هرمز في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 وتوقّفت في الخليج (على الجانب السعودي). أطلق أنصار الله أولى صلياتهم على السفن التجارية في 19 تشرين الأول/أكتوبر، واقتصروا على استهداف السفن الإسرائيلية وميناء إيلات.
لكن، بعد 29 تشرين الثاني/نوفمبر، صعّدوا هجماتهم على إيلات وعلى السفن المتّجهة منها وإليها بغضّ النظر عن تبعيتها وعمّن يملكها. وكما هو متوقّع، أعلن البنتاغون، في 18 كانون الأول/ديسمبر 2023، بدء "عملية حارس الرخاء" لحماية الازدهار الاقتصادي لإسرائيل بحياة الجنود الأميركيين. وغادرت أيزنهاور الخليج مسرعة إلى البحر الأحمر وخليج عدن لـ"الدفاع" عن إسرائيل.
ركنت البحرية الأميركية أصولها في البحر الأحمر وخليج عدن، عرضة لصواريخ كروز والصواريخ الباليستية والمسيّرات الايرانية أو التي توفّرها إيران. لم تتمكّن القوات البحرية والقوات الجوية الأميركية من هزيمة أنصار الله، وفشل القصف الأنكلو - أميركي لليمن في تحقيق أهدافه، فيما تستنزف وتيرة الهجمات اليمنية المعنويات والموارد البحرية الأميركية.
لا شيء في الواقع يشبه "مدافع هوليوود"، فالسفن البحرية الأميركية لا تملك كمية غير محدودة من الصواريخ الاعتراضية، ولا يمكن إعادة تحميلها في البحر. أما الروح المعنوية للجنود الأميركيين، فستتحطّم على المدى الطويل، خصوصًا أن العديد/ معظم البحارة ومشاة البحرية لا علاقة خاصة تربطها بإسرائيل. يقول الكابتن كريس هيل، قائد "ايزنهاور": "يحتاج الناس إلى فترات راحة، وإلى العودة إلى منازلهم". ولأن أحدًا لا يعطي مواعيد لذلك، فإن إحدى مهامه الحفاظ على معنويات أفراد الطاقم وصمودهم. وفيما يشعر البحارة ومشاة البحرية والطيارون بـ"الضجر" وهم يراوغون المسيّرات والصواريخ اليمنية بشكل يومي، يجذّف "الضفدع اليانكي" بمرح في مغطس واشنطن الساخن، معتقدًا بأن "عظمة" البحرية الأميركية ستهزم الحوثيين المزعجين.
كانت هذه خطوة محسوبة جيدًا من إيران، وحقّقت هدفين: أولًا إخراج مجموع الحاملات القتالية من الخليج الفارسي؛ وثانيًا جر الولايات المتحدة إلى فخ تصعيدي. يقبع "الضفدع اليانكي" اليوم في مياه البحر الأحمر / خليج عدن الساخنة حيث لا يمكن أن يفوز. فإما أن يقفز فارًا ومذلولًا، ما يعني مزيدًا من التهشيم لمصداقية القوات المسلّحة الأميركية في أعقاب كارثة عام 2021 في أفغانستان؛ أو يبقى داخل القدر الساخن ويغلي حتى الموت، خسائرَ في السفن والأرواح.
في كلتا النتيجتين، تفوز إيران. وعلى نحو متصل، فإن هزيمة إيران للولايات المتحدة ستكون موضع ترحيب من الصين وروسيا وعشرات الدول التي تمقت الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، وكما لاحظ مستخدم Twitter/X،المدعو "Armchair Warlord" فقد أظهرت إيران من خلال تصرفاتها "سيطرة انعكاسية" حيال تصرّفات واشنطن. وهو يعني بهذا أنه "إذا كان لكل عمل عسكري تقوم به رد فعل متماثل، فيمكنك عندئذٍ التحكّم بطبيعة الصراع ومكانه وإيقاعه لمصلحتك". وهذا تحديدًا ما يفعله الحرس الثوري الإيراني بذكاء.
إسرائيل
في هذه الأثناء، يحلم "الضفدع الإسرائيلي" الصغير، المضطجع في مياه دافئة، بـ "إسرائيل الجديدة" - إسرائيل التي ينشئها بمجرد أن "يطهّر" غزة عرقيًا من سكانها الأصليين. إذ أن لديه خططًا لتطوير غزة، وبناء شقق فاخرة على طول شاطئ البحر، ووحدات سكنية للمستوطنين الجدد. ويقوم المهندسون المعماريون الآن بوضع الخطط لذلك كله. صهر ترامب، جاريد كوشنر، أحد "المعجبين" بنتنياهو والمتبرعين لحزب الليكود، يعدّ الستائر لشقته السكنية على الواجهة البحرية في غزة: "ممتلكات الواجهة البحرية في غزة، يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة...".
لكن الجيش الإسرائيلي لم يهزم حماس التي تواصل إنزال أضرار جسيمة بالأصول العسكرية والمدنية الإسرائيلية. ووفقًا لأحد التقديرات، فإن قدرات الحركة تراجعت بنسبة 15-20% فقط. فيما يعتمد جيش الدفاع الإسرائيلي بشكل كامل على الولايات المتحدة والدول التابعة لأميركا (مثل بريطانيا وألمانيا) في مجال التسليح نظرًا لمحدودية قدراته الإنتاجية المحلية. ووفقًا لأحد التقديرات، عاد نحو 500 ألف مستوطن إلى أوطانهم الأصلية؛ ومعظمهم لن يعودوا إلى إسرائيل.
ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، لم يعد التجنيد الإجباري آمنًا بعدما كان مجرّد إزعاج يمتد لثلاث سنوات، إذ يخشى الآباء على بناتهم وأبنائهم. واستيقظت مجدداً حركة "الرافضين" النائمة التي انبثقت عن الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. يرفض المجنّدون الخدمة ويتعرّضون للسجن. وفي 1 نيسان/أبريل 2024، انتهى الإعفاء من التجنيد لليهود الأرثوذكس المتطرفين الذين يهدّدون بمغادرة إسرائيل. وفي حال انسحب ممثلو اليهود المتشدّدين من ائتلاف نتنياهو، فقد يؤدي ذلك إلى إسقاط حكومته. المجتمع الإسرائيلي هش، وسيتصدّع مع استمرار الحرب وزيادة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
أما الاقتصاد الإسرائيلي فيغرق في الفوضى. يشهد الشيكل مزيدًا من التراجع، إلى 3.60 شيكل للدولار منخفضًا من أعلى مستوياته عند 4.01 شيكل للدولار، مع احتمال حدوث مزيد من التراجع. فيما ارتفع عجز الموازنة والاقتراض بشكل كبير. وخفّضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لإسرائيل من A1 إلى A2 في 9 شباط/فبراير 2024، مع احتمال مزيد من التخفيضات كلّما طال أمد الحرب. وتواجه صناعة السياحة في إسرائيل مأزقًا بعدما أوقفت معظم شركات الطيران الكبرى رحلاتها اليها.
إن القواعد الصناعية والزراعية في إسرائيل صغيرة جدًا، ولهذه الدولة قدرة محدودة على الوصول إلى الموارد الطبيعية والطاقة. إذ تعتمد على خطوط الحياة البرية عبر الأردن ومصر، وعلى النفط والغاز الأذربيجاني اللذين يصلان إلى حيفا عبر تركيا. تُلحق إيران بإسرائيل ما ألحقته الأخيرة بها عبر العقوبات الاقتصادية. ولكن على النقيض من إسرائيل، تتمتّع إيران بإمدادات وفيرة من النفط والغاز، 85 مليون متعلّم لا يخطّطون للفرار، وقواعد زراعية وتصنيعية هائلة. تقوم طهران بخنق الاقتصاد الإسرائيلي بشكل منهجي. فميناء حيفا مدرج على قائمة أهداف حزب الله، وإذا تم إغلاقه مع ميناء إيلات، لن يكون لدى إسرائيل سوى شرايين حياة برية لإمدادات الغذاء والطاقة، فيما سيتم استهداف مطار بن غوريون الدولي ومطارات أخرى في المستقبل.
الاستنتاجات
الهجوم الذي طاول في الأول من نيسان/أبريل البعثة الدبلوماسية الإيرانية في دمشق، والذي يُزعم أنه جاء ردًا على استهداف مسيّرة عراقية لإيلات، يعكس مخاوف نتنياهو وإحباطاته التي عبّرت عنها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" (31 آذار/مارس) بأن "العالم كله يتّحد ضدنا"! يريد نتنياهو استفزاز إيران ودفعها إلى التصعيد، وربما الى استهداف الأصول العسكرية الأميركية في المنطقة، ما قد يجر الولايات المتحدة إلى حرب غزة. سيقوم الحرس الثوري الإيراني بالرد، لكنني أشك في أنه سيبتلع طُعمَ نتنياهو. ستعمل إيران على تشديد قبضتها على الاقتصاد الإسرائيلي، ربما من خلال قصف إيلات وحيفا ومطار بن غوريون.
يعرف الحرس الثوري الإيراني أن الاقتصاد الإسرائيلي لا يمكنه النجاة من حرب طويلة الأمد، لكن الحرب الطويلة - الغليان البطيء للضفدع الإسرائيلي من قبل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله وأنصار الله والميليشيات السورية والعراقية - هي بالضبط ما سيدمّر المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين. وقد أشار الخبير الاقتصادي هربرت شتاين إلى أنه "إذا لم يكن من الممكن أن يستمر شيء ما إلى الأبد، فسوف يتوقف".
الضفدع الإسرائيلي ليس قريبًا من الغليان حتى الموت، لكن الحرس الثوري منضبط ويعمل بحكمة على رفع درجات الحرارة في المنطقة.
تعليقات