في جولتها الثانية، أكملت الحرب الأمريكية على اليمن شهرها الأول، لا شواهد على أن الأهداف تحققت، ولا مدى زمنيا متوقعا لتحقيقها، لذلك تبرز محاذير اتساع الحرب وانخراط أطراف إقليمية، على رأسها السعودية والإمارات، غير أن موانع كثيرة قد تحول دون وقوع ذلك، كما حصل في العام الماضي، أو ستقع الحرب مع حاجة الرياض وأبوظبي إلى مزيد من الوقت والترتيبات. وللوصول إلى الخيارات المحتملة ينبغي فهم طبيعة المعركة القائمة، وكيف ينظر إليها اليمن وجواره الخليجي، وما هي الأسباب التي قد تدفع إلى توسيعها أو انحسارها.
من الواضح حتى في الأوساط الغربية أن الحرب الأمريكية على اليمن لا تنفصل عن الحرب على قطاع غزة. حاولت إدارة بايدن عام 2024 الفصل بين الحربين، فكان الواقع يشهد بترابطهما الكامل، قبل أن يتعزز ذلك باتفاق وقف إطلاق النار بين "إسرائيل" وحركة حماس منتصف كانون أول/يناير 2025، حين توقفت عمليات اليمن لولا نكث حكومة نتنياهو بالاتفاق.
عودة الحرب الأمريكية في ظل إدارة ترامب تمثل امتدادا لحرب سلفه بايدن، وإن حاولت الإدارة الجديدة حصر أسبابها بالهجمات اليمنية على السفن العسكرية والتجارية الأمريكية، والتي لم تكن لتحدث لولا العدوان على اليمن ضمن الالتزام الأمريكي بحماية السفن الإسرائيلية. على أن الملاحظ في الإدارة الجديدة أنها لا تجتهد كثيرا في محاولة الفصل بين الساحتين.
ما سبق هي حدود المعركة التي يخوضها اليمن، والفصائل الفلسطينية هي من تضبط إيقاعها، من خلال التصعيد العسكري أو التهدئة، مع الاستعداد الكامل يمنيًا لتحمل الأثمان الباهظة، وقد تسببت واشنطن في تجميد التفاهمات الإنسانية والاقتصادية بين الرياض وصنعاء، بعد أن رفضت الأخيرة وقف مساندتها العسكرية لغزة، ضمن سياسة العصا والجزرة التي اكتملت بعرض أمريكي يقضي بمعالجة ملفات اقتصادية مقابل الحياد اليمني كحال بقية الأنظمة العربية.
وجد اليمن نفسه بين قرارين: إما الاستمرار في عمليات الإسناد مع القبول بتجميد المعالجات الداخلية وتحمل ما ينتج عنها من معاناة، أو الانخراط في حرب مع السعودية والإمارات إلى جانب الحرب على "إسرائيل". مضى اليمن في الخيار الأول، انطلاقا من قناعات ثلاث:
1- أنّ الإسناد للشعب الفلسطيني ينبغي أن يكون خالصا من أيّ أهداف جانبية حتى لو كانت حقوقا لملايين اليمنيين، إيمانا بخطورة المرحلة وضرورة أن تتظافر الجهود العربية لصالح القضية المركزية.
2- العقيدة الأيديولوجية لأنصارالله، المبنية على مواجهة مشروع التوسع والهيمنة الإسرائيلي، مع تحاشي الاصطدام بالأطراف المحلية أو الأنظمة الخليجية إلا بلزوم الضرورة، ولذلك تعتبر أنصارالله أن الحرب السعودية الإماراتية على اليمن ارتبطت بالدرجة الأولى بأمن "إسرائيل".
3- الثالثة تتعلق بتفويت الفرصة على واشنطن وتل أبيب اللتان ترغبان - حاليا - في إشغال اليمن بحروب جانبية، بهدف حرف موقفه المساند عن مساره.
السعودية والإمارات: انزعاج من إسناد اليمن لغزة
لم تقابل السعودية والإمارات موقف اليمن بإيجابية، بل وجدت فيه فرصة للتنصل من التزاماتهما وفق اتفاقية التهدئة نيسان/أبريل 2022، وهذا التنصل لا ينفصل عن رغبتهما في معاقبة صنعاء عقب انخراطها في معركة الإسناد لغزة، وقد أحرج الموقف نظامي الرياض وأبوظبي، فالأخيرة منخرطة في التطبيع المباشر مع "إسرائيل" والأولى تقترب من ذلك، بينما اليمن الذي تعرض لعدوانهما منذ عام 2015 يسارع إلى دعم المظلومية الفلسطينية، رغم جراح سنوات الحرب والحصار. يضاف إلى ذلك أن الإسناد اليمني وقف على الضد من اصطفاف البلدين في المنطقة، وهما من أبرز حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية.
ذلك الانزعاج بقي في حدود وسائل الإعلام، دون أن يُترجم إلى تحرك عسكري كما كان مطلوبا منهما في تحالف "حارس الازدهار". بل إن السعودية - وهي من الدول المطلة على البحر الأحمر- اضطرت في البداية إلى ربط العمليات البحرية اليمنية بالحرب على غزة، قبل أن تتراجع عن ذلك بالحديث عن مخاوفها من تهديد الملاحة البحرية، في إشارة إلى العمليات اليمنية.
انقلاب الخطاب السياسي للسعودية لم يكن كافيا للانخراط في الغارات التي نفذتها إدارة بايدن والحكومة البريطانية في 11 كانون أول/يناير 2024، بل سارع ناطق الدفاع السعودية تركي المالكي لنفي الأنباء التي تتحدث عن تورط بلاده في فتح أجوائها للاعتداءات الأمريكية، ولاحقا الإسرائيلية.
اليمن يشجع السعودية والإمارات على الحياد
على الرغم من تنصل السعودية من الالتزامات تجاه اليمن، إلا أن صنعاء دفعت باتجاه تشجيع الموقف السعودي ومعه الإماراتي المتظاهر بالحياد تجاه عمليات المساندة لغزة، بهدف تحاشي انخراط البلدين المباشر في الحرب، أو الدفع بالأطراف المحلية الموالية لهما لشن هجمات برية واسعة، وكذلك الابتعاد عن المشاركة في تصعيد الحصار الاقتصادي. وكادت النقطة الأخيرة أن تفجر الوضع العسكري، حين لجأت السعودية في مطلع تموز/يوليو 2024 إلى الإيعاز للحكومة الموالية لها لمحاولة نقل البنوك اليمنية من صنعاء إلى عدن، قبل أن يعلن قائد حركة أنصارالله أن الخطوة تجاوزت الخطوط الحمر، واضعا إياها في سياق خدمة "إسرائيل" وطاعة أمريكا، كاشفا في خطابه يوم 7 تموز/يوليو 2024 بأن الأمريكي "أرسل إلينا برسائل بأنه سيدفع النظام السعودي إلى خطوات عدوانية ظالمة وسيئة وضارة بالشعب اليمني".
ارتفع سقف التهديد، ليعطي فرصة عاجلة للسعودية للتراجع عن الخطوة، أو الدخول في تصعيد واسع، ضمن معادلة: "البنوك بالبنوك، ومطار الرياض بمطار صنعاء، والموانئ بالميناء".
لعل الخطوة السعودية جاءت بهدف جس النبض، وربما نتجت عن قراءة خاطئة، بالاعتقاد أن اليمن يعيش حالة استنزاف نتيجة الاشتباك المباشر مع التحالف الدولي بقيادة واشنطن، مضافا إليها تعقيدات الوضع المعيشي، وبالتالي سيغض الطرف عن أي تصعيد اقتصادي، حتى لا يستدعي جبهات أخرى.
فوجئت السعودية بردة الفعل القوية، وأبرز تجليات ذلك تجسد في المقطع التالي للسيد عبد الملك الحوثي مخاطبا حكام السعودية:
"ليست المسألة أننا سنسمح لكم بالقضاء على هذا الشعب، وإيصاله إلى مستوى الانهيار التام، كي لا تحصل مشكلة، فلتحصل ألف ألف مشكلة، ولتصل الأمور إلى أي مستوى كانت".
معضلة الرياض وأبوظبي: لا ضمانات أمريكية في الحرب على صنعاء
بعد يوم من خطاب الحوثي خرج ملايين اليمنيين في مسيرات غاضبة ضد التصعيد السعودي، أعلن الخروج المليوني تفويض الحوثي في أي خطوات رادعة تجاه الرياض، مع إدراك الأخيرة أن المزاج الشعبي اليمني في أغلبه - حتى ما قبل تلك الأزمة - يدعو إلى قصف السعودية والإمارات، انطلاقا من القناعة الغالبة تجاه البلدين باعتبارهما السبب في صناعة الأزمة الإنسانية لليمنيين، والتي تم تصنيفها قبل حرب غزة بأنها الأسوأ في العالم.
بقراءة واقعية للتهديدات، تراجعت السعودية عن خطوة نقل البنوك من صنعاء إلى عدن، ونظرا للتجربة التي أكدت امتلاك اليمن قدرات عسكرية متطورة، سواء في قواته البحرية أو الصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيّرة. على أن الرياض لا تزال تستذكر ما فعلته تلك القدرات في منشآتها النفطية بين الأعوام 2019 -2021، فكيف بالصواريخ الفرط صوتية التي ظهرت اليوم والأجيال المتطورة من المُسيّرات؟ ولهذا السبب كانت الضغوط الأمريكية تفشل في إقناع الرياض وأبو ظبي بالعودة إلى التصعيد العسكري، ليس لوجود نوايا السلام، إنما لأن الإدارة الأمريكية فشلت في تقديم ضمانات أمنية بعدم تعرض البلدين لأضرار كبيرة، سواء في المنشآت النفطية أو الحيوية وصولا إلى التجارة البحرية، وبين أيديهما شاهد حيّ بفشل تحالف "حارس الازدهار" في حماية الملاحة الإسرائيلية، كما فشلت غارات أمريكا وبريطانيا في منع العمليات إلى عمق الكيان الإسرائيلي.
خيارات اليمن: لا صمت تجاه شركاء واشنطن في العدوان
لا يغفل اليمن عن المحاولات الأمريكية لتوريط السعودية والإمارات، وإن فشلت إدارة بايدن سابقا فهذا لا ينسحب على إدارة ترامب، فالأخيرة بنظر البلدين أكثر جدّية في تحقيق أهداف الحرب، وأكثر استعدادا لتوفير قدرات دفاعية متطورة، مع تشكل قناعة سعودية إماراتية بضرورة استغلال اللحظة، عقب سقوط النظام السوري، و"إضعاف" حزب الله بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان. خاصة وأن اليمن يشكل الهاجس الأكبر للسعودية، التي لا تؤمن بقيام نظام مُتحرر بجوارها، يصطدم معها سياسيا وأمنيا. وبالمثل تتعاظم مخاوف حكام الإمارات من تصاعد القوة اليمنية، وتأثيراتها السلبية على حضورها الإقليمي المنسجم جدا مع التوجهات الإسرائيلية.
ونظرا لما سبق، وضع اليمن مقدراته في حالة استنفار شامل، يرقب كل التحركات من جهة البلدين أو الفصائل المحلية الموالية لهما، والأخيرة تبدو متحمسة للدخول في الحرب، وقد أعلنت مرارا جهوزيتها للمشاركة في أي تحالف دولي لـ"حماية الملاحة"، وحضرت لقاءات مباشرة مع المسؤولين الأمريكيين، عسكريين وسياسيين. ومن واقع المعرفة بتلك الفصائل، يمكن التأكيد على استحالة تحريكها بدون الضوء الأخضر من مشغليها في الرياض وأبوظبي، لذلك ستفهم صنعاء أن لجوء الفصائل المحلية إلى الحرب البرية الواسعة يفرض عليها التعامل مع القوى المشغلة، وبالتالي سيمثل هذا سببا أول في استئناف الصواريخ والمسيرات على أهداف سعودية وإماراتية، والسببان الآخران:
- مشاركة السعودية والإمارات في القصف المباشر على غرار ما حصل في الأعوام 2015-2021.
- المساهمة في تصعيد الحرب الاقتصادية.
ما سبق أبرز عوامل الانفجار الكبير، مع إضافة أسباب تفصيلية وردت في خطاب السيد الحوثي يوم 4 نيسان/أبريل 2025، حين خاطب الدول العربية، خاصة المجاورة لليمن بالقول
"فأنتم إذا قمتم بأي تعاون مع الأمريكي، إما بالسماح له بالاعتداء علينا من قواعد في بلدانكم، أو بالدعم المالي أو الدعم اللوجستي أو الدعم المعلوماتي، فهو دعم للعدو الإسرائيلي، ومناصرة للعدو الإسرائيلي".
جاء النص الأخير في سياق النصح والتحذير، ويبدو أن الحوثي أضاف النقاط السابقة إلى قائمة الخطوط الحمر، ما قد يستدعي ردا متناسبا وربما مفتوحا تجاه الأطراف التي تتجاوزها. ومن المهم الإشارة إلى أن الرسالة عكست حسابات اليمن حول إمكانية تورط دول الجوار، أو دول عربية وأفريقية، تحت مبرر "حماية الملاحة الدولية"، وهذا يعني الاتجاه نحو الجهوزية أمام أيّ سيناريوهات قادمة، مع إفقادها عنصر المفاجأة.
تعليقات