أعلن مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، عن تفاؤله بجهود إقناع السعودية للانضمام لاتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، مشيرا إلى أن سوريا ولبنان "يمكنهما اللحاق" بقطار التطبيع.

وقال ويتكوف خلال نشاط للجالية اليهودية في واشنطن قبل أيام أن هناك "إمكانية لانضمام سوريا ولبنان للتطبيع مع إسرائيل" بعد "الضربات القوية التي تعرضت لها القوى المدعومة من إيران بحسب تعبيره، في إشارة إلى حزب الله وحركة حماس بالإضافة الى سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في دمشق.

الدفع مجددا نحو التطبيع 

عاد الحديث المتجدد عن التطبيع بين دول المنطقة واسرائيل إلى الواجهة بعد المعارك التي دارت في المنطقة. لم تكن عودة دونالد ترامب (صاحب مشروع صفقة القرن) إلى البيت الأبيض وحدها ما أعطى هذا الملف زخما متجددا، بل مجمل أحداث المنطقة بعد "طوفان الاقصى" وما ترتب عليه من نتائج وتحولات في موازين قوى الجغرافيا السياسية في كل المنطقة ولا سيما في سوريا ولبنان.

لم يغب ملف التطبيع بين اسرائيل والدول العربية عن طاولة اي رئيس أميركي معاصر. حتى أصبحت عبارة "التسوية السلمية" للقضية الفلسطينية والاعتراف بحق اسرائيل في الوجود وتطبيع العلاقات مع الدول العربية، جزءا تقليديا من الخطاب الانتخابي لكل رئيس أميركي جديد. ومن سياسة واشنطن الراسخة في "غرب آسيا " والتي بنيت على ركيزتين: أمن اسرائيل وتفوقها الامني والعسكري والاقتصادي وامن النفط والثروات في دول ما يسمى "الاعتدال العربي".

المقاومة التاريخية لجهود التطبيع الأميركية

كانت جهود واشنطن أيام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي تصطدم في منطقتنا بوجود دول عربية رافضة لهذا المسار، بل كانت داعمة لمقاومة الشعب الفلسطيني في سبعينات وثمانينات القرن الماضي ابرزها سوريا والعراق وليبيا والجزائر وغيرها. وفي حين انقسم العالم العربي يومها بين دول "التصدي والصمود" ودول "الواقعية والاعتدال" كالسعودية ومصر الخ.. ظل احتمال نجاح واشنطن والمحور الغربي واسرائيل في فرض هذا المسار ضعيفة، بسبب وجود كتلة شعبية وحكومية عربية ترفض منطق التنازلات والتسويات وتدعم المقاومة المسلحة بوجه الاحتلال الاسرائيلي. وفي هذا المعنى تقدم خيارا آخر للمنطقة يختلف في جوهره عن منطق "التفريط والتصفية" إسمه خيار المقاومة في فلسطين وفي لبنان بعد اجتياح العام 1982.

أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات بدأ ضعف وتفكك الاتحاد السوفياتي واختلت موازين القوى بدخول العراق إلى الكويت وانقسام العالم العربي. وكانت من نتائج هذه التحولات الدعوة إلى مؤتمر مدريد في إسبانيا عام 90 بين الدول العربية واسرائيل. وبداية مسار جديد إسمه مسار المفاوضات والتسوية السلمية للنزاع تحت عنوان "حل الدولتين". يومها انخرطت منظمة التحرير الفلسطينية في هذه المفاوضات ووقعت اتفاقية "أوسلو" 93 ولحق بها الأردن عام 94 بتوقيعه اتفاقية “وادي عربة”.

جهود واشنطن الحالية ليست بعيدة عن حسابات موازين القوى وما تفرضه في السياسة. فإذا كانت نتائج حربي 67 و73 قد دفعت بمصر نحو اتفاقية سلام وإنهاء العداء مع اسرائيل فيما يسمى اتفاقية "كامب دايفيد". وإذا كان اجتياح العام 82 ل لبنان قد أوصل إلى اتفاقية 17 ايار بين بيروت وتل أبيب قبل أن تعود وتسقطها قوى المقاومة خلال عامين تقريبا وفي ظل الاحتلال. فلماذا لا تكون مرحلة ما بعد "طوفان الاقصى " بكل تداعياتها مدخلا لمحاولة تمرير أو فرض ملف التطبيع على كل من سوريا ولبنان؟ 

سوريا: ساحة معركة للمصالح المتنافسة

سوريا لم تستقر بشكل نهائي بعد، ولن يكون في مقدور السلطة الجديدة الخوض في هذا المسار قبل ترتيب أوراقها الداخلية وفهم مستقبل البلاد في ظل الاحتلال الاسرائيلي الذي توسع في الجنوب ويعمل على الإمساك بمزيد من الأوراق التي تعزز من واقعه الامني والسياسي وتحوله لاعبا في الملف الداخلي السوري ولكن ليس اللاعب الإقليمي والدولي الوحيد. 

في سوريا تلعب تركيا اليوم دور الرعاية الكاملة للنظام وتؤسس لطموح ونفوذ سياسي وأمني واقتصادي. ومن شأن التوسع الاسرائيلي في سوريا بغطاء أميركي وصمت عربي بأن يصطدم في أي لحظة بالطموح التركي الأمر الذي يضع البلاد أمام مسار قد يؤدي إلى مزيد من التفكك في ظل ضعف السلطة المركزية في دمشق وعدم سيطرتها على كل أراضيها في الجنوب والشرق وشمال شرق الفرات حيث تحكم قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة.

في ظل المشهد الانتقالي الحالي ومآلات الحالة السورية يصبح مفهوم "التطبيع" مرتبطا بعدة عوامل واسئلة حول أي سوريا تلك التي تطمح إدارة ترمب إلى دفعها نحو "السلام" والعلاقات الطبيعية مع اسرائيل. هل هي سوريا الموحدة والدولة المركزية القوية؟ أم هي سوريا المفتتة والضعيفة التي تتحول منذ العام 2011 وبعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد إلى مناطق نفوذ دولي وإقليمي أقرب إلى الوصاية والاحتلال المقنع.

لبنان: حقل ألغام سياسي للتطبيع

في لبنان تتم مقاربة هذه المسألة بحساسية عالية. ومن يعرف التركيبة اللبنانية جيدا يدرك بأن هذا الخيار سيكون انتحاريا إذا اقدمت عليه السلطة في لبنان. في العام 82\83 كانت اسرائيل تحتل غالبية لبنان بشكل مباشر والبلاد تعيش حربا اهلية وانقسامات حادة. حين وقعت السلطة على اتفاقية 17 أيار التي لم تصمد طويلا واسقطتها القوى المتحالفة مع سوريا وإيران خلال عام تقريبا. وكان الخيار البديل يومها هو القتال والمقاومة وصولا إلى إخراج اسرائيل عام 2000 بقوة السلاح ودون أي مفاوضات مباشرة. 

الموانع الاجتماعية والثقافية والسياسية لا تقتصر على حركات المقاومة ومنها حزب الله. بل ينص القانون اللبناني الذي اقره مجلس النواب على تجريم التطبيع مع إسرائيل واعتباره جناية تخضع من يقوم بها للمساءلة القانونية والعقوبات وهنالك أيضا قوانين المقاطعة الثقافية والسياسية والاقتصادية.

لقد تحول مسار التطبيع من القرن السابق الى قرننا الحالي تحولًا دراماتيكيًا بحيث كان محرمًا عربيًا وبات مشروع أمر واقع ويتطور تدريجيًا. لقد احتلت اسرائيل أراضي في سوريا وهي تحتل نقاط في لبنان تعتبر بمثابة اراضي لبنانية محتلة.

هل التطبيع أمر لا مفر منه؟

لقد حصلت تبدلات في المنطقة تُطرح حولها علامات استفهام حول العديد من الإشكاليات الاستراتيجية على الشكل التالي:

  • ماذا بعد سقوط النظام في سوريا؟ 
  • أين موقع سوريا الجديد في الصراع مع العدو الصهيوني بعدما احتل أجزاء كبيرة منها؟ 
  • أين يتجه لبنان بعد حصول نقلة سياسية نوعية سواءً في الشكل أو المضمون؟
  • كيف ستخوض المقاومة الاستحقاقات المقبلة بدءً من التعيينات، مرورًا في الانتخابات البلدية وصولًا الى الانتخابات النيابية؟
  • ماذا ينتظر المقاومة من استحقاقات جديدة على مستوى المواجهة الداخلية سواءً ماليًا او سياسيًا أو امنيًا؟

الإجابة على كل سؤال من هذه الأسئلة يساعد في عملية استشراف هذا المسار على مستوى لبنان وسوريا. ولكن من المؤكد أن الموجة الدولية الإقليمية التي تريد الاستثمار في كل ما حدث في المنطقة العام الماضي هي موجة عالية ومستمرة حاليًا في ظل إدارة أميركية أطلقت يد نتنياهو في المنطقة، وتتحضر للانتقال بالشرق الأوسط إلى مرحلة جديدة تساعدها في عملية المواجهة مع الصين واحتواء كل من روسيا وإيران. 

في العام ٢٠١٧، فشلت صفقة القرن جزئيًا بسبب قوة المقاومة وخوف الأنظمة العربية المعنية من انعكاسات التطبيع عليها. أما الآن، وبعد انخفاض مناعات المنطقة، يبدو أن الإدارة الأميركية تستعد مجددًا لتزخيم هذا الملف وجعله أمرًا واقعًا بالحرب العسكرية تارةً، وبالعقوبات الاقتصادية والحصار وربط ملف إعادة الإعمار بالتطبيع تازةً أخرى. الأيام المقبلة ستكشف المزيد على هذا الصعيد. نتنياهو يتحدث في الكنيست عن جيهات سبعة، وهنا السؤال: ماذا بعد غزة ولبنان وسوريا؟ وهل ستكون الضفة واليمن والعراق وإيران أمام مخاطر وتحديات داهمة في المرحلة القادمة؟ وذلك في إطار تحضير المنطقة لموجة جديدة من الاتفاقات الابراهيمية؟ وكيف ستتعامل قوى المقاومة مع هذه الاندفاعة الأميركية-الإسرائيلية-الغربية لتغيير شخصية المنطقة وتحضيرها بشكل نهائي وتام للقبول بوجود اسرائيل؟ إنها معركة فاصلة… فإما أن تحافظ البلاد على هويتها وتتمسك بحقوقها وإما أن تدخل إلى مرحلة التقسيم والتجزئة والتفتيت والتطبيع.